فلسفة التغيير التي قال بها الثنائي ماركس – انغلز جاءت في سياق الرد على فوضى الإنتاج وعدم القدرة على تلبية حاجات النمو السكاني، وهي تطورت زمنياً من محطة التفسير إلى محطة الإصلاح أو إعادة التنظيم العقلاني (كونت) وصولاً إلى ظهور حالات عنف أخذت تنتقل من مدينة إلى أخرى.
في هذا الإطار يمكن رصد ثلاث مراحل طرأت على تطور الفكر الماركسي: الأولى حقبة الشباب وانتهت في العام 1848 حين أشرف الثنائي على كتابة «البيان الشيوعي» وتبلورت فيه الخطوط العريضة للفلسفة. الثانية حقبة الكهولة انتهت في العام 1871 مع «كومونة باريس» حين استكمل الثنائي صوغ فكرة التغيير في سياقات واضحة في منهجيتها وأهدافها الكبرى وتراتبها الزمني – الاجتماعي. الثالثة بدأت في حقبة الشيخوخة وترافقت مع تداعيات الموجة الثالثة من الثورة الصناعية التي انفجرت في العام 1870 وتواصلت إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى في 1914.
الثنائي عاصر الموجة الثانية وعايش كل تفاعلاتها وديناميكياتها بين 1820 و1870، وشاهد مقدمات الموجة الثالثة وتعرف على قوانينها حين اشتغل على استقراء وتفكيك شبكاتها وبناها الفوقية والتحتية في الكتابات المتأخرة التي اتسمت بالنضج والروية.
آنذاك كانت الماركسية اشتهرت وازدهرت وانتشرت وترجمت إلى لغات أوروبية مختلفة بسبب الجهود الاستثنائية التي بذلت خلال فترة النشاط السياسي – الحزبي التي امتدت أربعة عقود من الزمن.
المراحل التطورية التي مرت بها الماركسية تعتبر عادية بمقاييس حقبة متقلبة وتحولات متنقلة. إلا أن الأساس في جوهر الفكرة لم يتغير كثيراً بعد العام 1848 في اعتبار أن مصادر الماركسية تشكلت تاريخياً من ثلاثة روافد: الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي الإنجليزي، والمثالية الاشتراكية الفرنسية. والروافد الثلاثة التي تفاعلت ميدانياً تحولت في فلسفة الثنائي إلى حركة تغيير سياسية تمظهرت في النشاط العملي من جهة والمؤلفات النقدية التي تابعت بدقة حوادث العصر وأرخت لكل تلك الانتفاضات العمالية التي شهدتها ساحات أوروبا وتحديداً فرنسا وألمانيا.
حين التقى ماركس صديقه انغلز لم يكن قد اكتشف بعد موقع الطبقة العاملة (البروليتاريا قاطرة التحول التاريخي) ودورها القيادي من خلال رؤية كونية دعت إلى وحدة العمال العالمية (يا عمال العالم اتحدوا) في مواجهة الرأسمالية العالمية. هذه الفكرة الثورية (التغييرية) تأخرت إلى حين صدور «البيان الشيوعي».
قبل هذه الحقبة اشتغل الثنائي على تصفية الحساب مع الفلسفة الألمانية التي عرفت في تلك الفترة العاصفة شهرة أعطتها قوة مهيمنة على التفكير الأوروبي. ووجد الثنائي أن هناك مهمة تاريخية تبدأ بتطويق تلك الأيديولوجية والحد من مخاطرها التي بدأت تتمظهر في تيارات سياسية مسيحية – ديمقراطية، مسيحية – اشتراكية، ومسيحية – قومية، وأحياناً ديمقراطية – اشتراكية، وديمقراطية – قومية، وقومية – اشتراكية. وشكل هذا التمظهر الأيديولوجي تحدياً للأحزاب الاشتراكية العمالية والمنظمات الشيوعية ما اقتضى من الثنائي بذل الجهود النظرية لمواجهة الفلسفة الألمانية والرد عليها.
بسبب تركيز المهمة على هذه النقطة الرئيسية بدأ الثنائي يعمل على إنهاء الاتصال النظري مع ذاك الكم الهائل من المنتوجات الفلسفية من خلال إصدار مجموعة ردود أخذت بالظهور منذ العام 1844. قام ماركس أولاً بنقد «فلسفة الحقوق عند هيغل»، وبدأ العمل ثانياً مع رفيقه انغلز على كتاب «العائلة المقدسة» الذي عرف بنقد النقد النقدي تضمن سجالات عنيفة ضد الأخوين باور واتباعهما بشأن دور النقد وعرضا فيه تاريخ الفلسفة (النزعة المادية في بريطانيا وفرنسا) وبلورا المفهوم المادي للتاريخ (العلاقات الاجتماعية للإنتاج) وأكدا على دور البروليتاريا (حفارة قبر الرأسمالية). بعدها انتقل إلى فيورباخ وانتقد اطروحته عن المادية الميكانيكية (التلقائية) مركزاً على قوانين المادية الديالكتيكية وناقش آراء الماديين الانجليز والفرنسيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر وانتقد هيوم وكانط.
ثم اشتغل مع انغلز على «الأيديولوجية الألمانية» ودخلا في سجالات مع الهيغلية ومادية فيورباخ وقصورها عن الفهم المادي للتاريخ (صلة الوعي الاجتماعي بالوجود الاجتماعي). وأخيراً رد ماركس على برودون في كتاب «بؤس الفلسفة» الذي صدر في العام 1847 لينتقل بعده إلى بروكسل وينضم في العام نفسه إلى «عصبة الشيوعيين» مع رفيقه انغلز الذي كان أنجز وضع مسودة «المبادئ الشيوعية» في العام 1847.
على أساس مسودة انغلز وضع الثنائي «البيان» في العام 1848 وفيه تبلورت تلك الإشارات عن صراع الطبقات، العنف قابلة التاريخ، ديكتاتورية البروليتاريا (مؤقته)، إلغاء الطبقات في الطور الأعلى من التقدم، إنهاء وظيفة الدولة (اضمحلالها التاريخي). وجاءت هذه الأفكار على قاعدة تبلور فلسفة التغيير التي توضحت معالمها من خلال تلك السجالات (كتب الردود) ضد الأيديولوجية أو الفلسفة الكلاسيكية الألمانية بين 1844 و1848.
بعد هذه المرحلة انتقل الثنائي (ماركس/ انغلز) إلى ممارسة النشاط الحزبي وبدأ بخوض النضال السياسي في ألمانيا فطرد منها إلى باريس في العام 1849. قرار الطرد جاء بعد فشل الثورة الألمانية الأمر الذي دفع انغلز إلى تأليف كتابين سياسيين عن ألمانيا وتجارب الحركة العمالية (الحرب الفلاحية في ألمانيا، الثورة والثورة المضادة في ألمانيا). كذلك صديقه ماركس عمل على تأليف ثلاثة كتب سياسية عن فرنسا وهي «الصراعات الطبقية في فرنسا» و «لويس بونابرت والثامن عشر من برومير» وأخيراً كتابه عن كومونة 1871 الذي حمل عنوان «الحرب الأهلية في فرنسا».
شكلت هذه الكتب السياسية حقبة مهمة في تطور فكر الثنائي الماركسي لأنها جاءت نتاج تجربتين ثريتين الأولى تتصل بالنضال (النشاط الحزبي) والثانية تتعلق بالمهنة وملاحقة الأخبار وتغطية أنباء الحوادث والاضطرابات. ومهنة الصحافة التي مارسها الثنائي أعطت حيوية معاصرة للكتابات النظرية والفلسفية والاقتصادية والسجالية لأنها قدمت مادة يومية خصبة عما يحصل في العالم آنذاك. فالكتابات الصحافية لماركس لاحقت أيضاً أخبار وحوادث لبنان (الحرب الأهلية في 1860) والجزائر (الاستعمار الفرنسي) والهند (الاستعمار البريطاني) والولايات المتحدة والصين وروسيا. البلد الأخير سيتحول لاحقاً إلى أهم مستهلك لكتب الثنائي الماركسي على رغم ما صدر عنه مراراً من مخاوف تحذر من الخطر الروسي على أوروبا (قلعة الفلاحين والتخلف) واحتمال تعطيله للتقدم الرأسمالي الجارف لنمط الإنتاج القديم.
لم يتوقف الثنائي عن النشاط الحزبي خلال مغادرته إلى باريس ثم انتقاله إلى لندن (المدينة المستقرة والمنفتحة) للعمل على استكمال مشروع الثورة (التغيير) الذي لم يحصل خلال الفترة اللاحقة. من هناك تابع الثنائي العمل على تطوير مخطوطات «نقد الاقتصاد السياسي» في العام 1859، ودعا إلى تأسيس «الأممية الأولى» في 1864 لتشكل ذاك الإطار الجامع لكل الأحزاب والمنظمات والحركات العمالية والشيوعية والاشتراكية العلمية.
لندن كانت المحطة الأخيرة في حياة الثنائي إذ تابع وكتب عن المؤتمرات الحزبية و «الانتفاضات الطبقية» في فرنسا وألمانيا وغيرهما بين 1850 و1875 وأصغى باهتمام إلى تلك الأخبار المفرحة التي كانت تأتي من روسيا وتبشر بتحولات ثورية. خلال هذه الفترة الثالثة (من 1871 وصاعداً) تفرغ ماركس المحبط لمتابعة تأليف كتابه المهم عن «رأس المال» فصدر المجلد الأول في 1867، والثاني والثالث نشرهما انغلز في العامين 1885 و1894 بعد رحيل صديقه. أما المجلد الرابع فصدر بعد فترة من وفاة انغلز في العام 1895.
مهمة التغيير التي قادها الثنائي انتهت إلى الفشل في الدول الصناعية الرأسمالية ولكنها نجحت في البلدان المتخلفة اقتصادياً بعد أن عدَّل لينين (فلاديمير ايليتش) زواياها الحادة وقام بتكييفها مع ظروف روسيا الفلاحية. وفشل توقع نجاح الثورات في أوروبا يعود إلى قصور في النظرية التي تأسست كتاباتها الأولى على قاعدة الردود وانتهت إلى حسم مجموعة قوانين عن المادية التاريخية (محطات التطور الاجتماعي) والمادية الجدلية (تعارض قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج) والصراع الطبقي وقيادة الطبقة العاملة للتحول واضمحلال الدولة (إلغاء الطبقات) والدخول في عصر الشيوعية.
هذا التحقيب النظري كان نتاج تداعيات الموجة الثانية من الثورة الصناعية التي ولدت اضطرابات عنيفة في ألمانيا وفرنسا وانتهت في العام 1871 لتبدأ معها الموجة الثالثة التي عاصر الثنائي بداياتها الأولى وأنتج أفضل الكتب (رأس المال ونقد برنامج غوتا لماركس) و(ضد دوهرينغ وأصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لانغلز).
المرحلة الثالثة من الكتابات كانت ناضجة لكنها فشلت في توضيح ملابسات نظرية تلامس ثوابت المبدأ الديالكتيكي الاجتماعي للثنائي. ماركس وانغلز قررا أن التناقض بين الرأسمالية والبروليتاريا من الثوابت التاريخية التي لا تتغير بينما الجدل (وحدة التناقض) أدى إلى متغيرات في الرأسمالية نفسها إذ تطورت وتبدلت وتحولت وظائفها بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين. والطبقة العاملة دخلت أيضاً في حالات متخالفة وتقدمت اجتماعياً خلال القرون الثلاثة.
كذلك شاب فكرة «الحزب» بعض التعديل بسبب نمو موقع الطبقة الوسطى وظهور تأثيرها السياسي في تشكيل أحزاب إصلاحية (اشتراكية - ديمقراطية) تقول بالمصالحة والتطور (لا الثورة) وترفض العنف وتؤمن بمبدأ التحول المنظم (القانوني) المتدرج. والأمر نفسه ينطبق على الدولة ومهماتها التاريخية. فالدولة أيضاً ليست ثابته (أداة طبقية للقمع والقهر كما قال الثنائي) إلى النهاية وخارج الزمن، فهي نجحت لاحقاً في تعديل وظائفها وتوسيع أنشطتها وتحسين المستوى المعيشي والصحي والتربوي للناس (دولة الرفاه) والدخول في العملية الاقتصادية كهيئة تراقب أو تشارك في وضع البرامج التنموية والتحديثية والدفاعية.
هذا التناقض الذاتي في قراءة الماركسية لفلسفة التغيير تأسس على تلك النزعة الأيديولوجية التي تحكمت بالثنائي بين 1848 و1871 ودفعته إلى المراهنة والمغامرة واستباق الزمن والتسرع في إسقاط أحلام وردية بشأن اقتراب لحظة الثورة وبدء البروليتاريا في ممارسة «ديكتاتوريتها» لتنهي في عهدها القصير عصر استلاب الآلة للإنسان (الاغتراب على النسق الماركسي) واستغلال الإنسان للإنسان. الحلم الوردي المذكور لم يتحقق في عصر ماركس/ انغلز ويرجح ألا يتحقق في كل العصور.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2821 - الخميس 27 مايو 2010م الموافق 13 جمادى الآخرة 1431هـ