من المؤكد أن دورة هذا العام المنتهية قبل أيام، من مهرجان «كان» السينمائي الدولي سوف تدخل تاريخ المهرجان بوصفها الدورة الأضعف في السنوات العشر الأخيرة على الأقل. والأدهى من هذا أن الدورة أصرّت على أن تبقى سيئة حتى النهاية أي حتى توزيع الجوائز وإن بشكل نسبي. حيث ان توزيعاً أكثر منطقية للجوائز في حفل الختام كان من شأنه أن ينقذ ما يمكن إنقاذه. لكن لجنة التحكيم أصرت كما يبدو على أن تحذو حذو المهرجان نفسه في كآبته وتقشفه ورتابته وفي سوء اختياراته، فأعطت في مقابل جائزتين أو ثلاث جوائز جيدة، جوائز أخرى أثارت دهشة إنْ لم نقل أثارت استهجاناً. وينطبق هذا خاصة على ثلاث جوائز أساسية في مقدمتها السعفة الذهبية. فهذه الجائزة الأسمى في المهرجان والتي يتطلع إلى نيلها عادة كل من في عالم السينما من مبدعين ومنتجين ذهبت هذه المرة إلى فيلم اعتبر فلتة الشوط ومن أكثر الأفلام غرابة وإثارة للسجال. نتحدث هنا عن الفيلم التايلندي «العم بومني» الذي يتذكر حيوات أخرى عاشها، الفيلم الذي كان صحيحاً أن البعض تنبأ له بفوز ما منذ عُرض كان ثمة في المقابل كثر بارحوا صالة العرض حين ظهر قائلين إن أكثر ما يلفت في هذا الفيلم الغريب هو انه يعطي المتفرج الغربي تلك الأجواء الغرائبية التي يبحث عنها هذا الأخير. فإن فاز - وكان هذا احتمالاً مستبعداً جداً أول الأمر - فسيكون فوزه لغرائبيته ثم لأنه انتاج فرنسيّ، ثم أخيراً - وهذا أمر في غاية الأهمية في الظروف الراهنة - يجب ألا ننسى الأحداث السياسية الصاخبة في بلد مخرجه: تايلند. وبالفعل فاز الفيلم لتستكمل الدورة بفوزه غرائبها وعجائبها. أما الفيلم نفسه فعمل خيالي يقول مخرجه - واحفظوا اسمه جيداً إن كنتم تستطيعون: أبيشاتبونغ فيراسيتاكول! - إنه إنما حققه انطلاقاً من فولكلور وأساطير المناطق الشمالية الشرقية من تايلند حيث، ودائماً بحسب المخرج، يعيش الناس في اتحاد تام مع الطبيعة وحيواناتها وأشباح الميتين فيها. هنا في هذه الأجواء يقدم الفيلم حكاية «مرعبة» حيناً ومضحكة حيناً، عن العم بومني الذي إذ وجد نهايته تقترب ذهب الى الغابات ليعيش هناك مع الأشباح، ومنها شبح ابنه الذي سبقه الى العالم الآخر وها هو آت ليأخذه إليه. حسناً هناك أناس أحبوا الفيلم وهناك آخرون لم يحبوه. أما العامل الحاسم فيبدو أنه كان رئيس لجنة التحكيم المخرج تيم بورتون المعروف بغرابة أطواره وأفلامه، فأتى الفيلم على قياس تفضيلاته كما على قياس الظروف الفرنسية الإنتاجية والسياسية التي ذكرنا. ومن المؤكد إذ حدث هذا وانتهى الأمر أن «العم بومني...» سيكون لاحقاً واحداً من أقل أفلام السعفة الذهبية في تاريخ كان اجتذاباً للمتفرجين في الصالات والعروض التجارية. فهو رغم أبعاد فنية وجمالية وانثروبولوجية فيه، فيلم ممل بطيء يكاد لا يحدث فيه شيء حقاً.
ذكرنا فرنسا ودورها المفترض في ترجيح فوز هذا الفيلم التايلندي، لكننا نذكر هنا أنها لم تكتف بهذا الدور ولا بهذا الفوز. وبصراحة حسناً فعلت! ذلك أنه إذا كان كثر سوف يأخذون على فرنسا كونها فازت بكل هذه الجوائز (ست أو سبع من أصل ثمان أو تسع!) فإن من بين هذه الجوائز «الفرنسية» اثنتين مستحقتين بكل تأكيد. أولاهما جائزة أفضل تمثيل نسائي فازت بها الفنانة الكبيرة جولييت بينوش ولكن ليس عن فيلم فرنسي! بينوش نالت جائزتها عن دورها الرائع في الفيلم الذي كان أول عمل يحققه المخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي خارج وطنه الذي اعتاد أن يحقق فيه وعنه كل أفلامه التي وضعته في الصف الأول من كبار سينمائيي العالم في زمننا هذا. فيلم كياروستامي الجديد الذي حقق في إيطاليا بأموال إيطالية/ فرنسية هو «نسخة طبق الأصل» الذي لعبت فيه بينوش دور سيدة فرنسية تعيش في قرية إيطالية في توسكانيا وتلتقي لثلاث ساعات مؤلفاً إنجليزياً تعيش معه مغامرة مدهشة لا تعود تعرف هي معها ولا نعود نحن نعرف ما إذا كانا التقيا للمرة الأولى هنا أم إنه لقاء جديد بين زوجين! حكاية شاعرية غريبة وعذبة حكاية هذا الفيلم. حكاية أعطت لبينوش دوراً كبيراً وجائزة أكبر.
عمل فرنسي آخر استحق أيضاً جائزته وبقوة: إنه فيلم «عن البشر والآلهة» للمخرج الشاب كزافييه بوفوا الذي - وكما كان متوقعاً له منذ عرضه أواسط أيام المهرجان - منح جائزة لجنة التحكيم الكبرى، التي على العكس من جائزة السعفة الذهبية تعتبر جائزة من دون مساومات وحسابات، هي جائزة حرة تماماً ترتكز إلى الأبعاد الفنية والفكرية في إعطائها لفيلم من الأفلام. والحال أن فيلم بوفوا يُعتبر استثنائياً بعمقه وتكوينه وأبعاده الفكرية مع أن منطلقه حادثة إرهابية راح ضحيتها في الجزائر قبل عقد ونصف العقد من السنين سبعة رهبان فرنسيين. الحادث حقيقي وجرى كلام وسجالات كثيرة من حوله حينها. أما من اقترف الجريمة فلا تزال هويته الحقيقية لغزاً حتى اليوم في حين اتهمت السلطات الجماعة الإسلامية المسلحة بينما وجه كثر الاتهام إلى السلطات نفسها. والفيلم في الحقيقة لا يرجح أيّاً من الفرضيتين بل إن هذا ليس ما يهمه حقاً. ما يهم الفيلم كان تصوير حياة الرهبان قبل الجريمة في ديرهم المعزول على بعد نحو 100 كلم إلى الجنوب من العاصمة الجزائرية... والانطلاق من هذا للحديث عن الحوار بين الأديان والحضارات بلغة متسامحة طيبة تجعل من هذا الفيلم المتميز حاجة أساسية في أزمان الحقد والكراهية التي نعيش.
إذا كان في مقدورنا أن نحيّي هذا الفوز لفيلم فرنسي استثنائي فليس في وسعنا أن نقول الشيء نفسه عن فيلم وفوز فرنسيين آخرين. ونعني بهذا فوز فيلم «جولة» للمخرج الفرنسي ماتيو أمالريك بجائزتين لم يستحق في الواقع أيّاً منهما: جائزة الإخراج وجائزة جمعية النقاد العالمية. فيلم عادي جداً وسطحي جداً فيلم أمالريك هذا. ومن هنا حين أعلن فوزه ساد وجوم احتجاجي ثم تلاه تصفيق أتى بارداً برودة حفل الختام هذا. وعلى العكس حين أعلن بعد ذلك فوز الممثل الإسباني خافيير بارديم بجائزة التمثيل الرجالي عن دوره الرائع في فيلم «بيوتيفيل» للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو (صاحب «بابل» وغيره من الروائع السينمائية الأخرى)، علا تصفيق كبير، فبالفعل بارديم ممثل كبير وكان فاز بأوسكار مستحقة. هذه المرة أتى فوزه عن دور رجل من الحثالة يعيش في أحياء برشلونة الصعبة ويبدأ بتنظيم حياته وحياة ولديه إذ يدرك أنه مصاب بالسرطان وسوف تنتهي أيامه قريباً. فيلم إيناريتو الجديد هذا فيلم كبير كان يستحق أكثر من فوز، بيد أن انتصار بارديم فيه أتى تعويضاً رائعاً لنسيانه - أي الفيلم - من قبل لجنة تحكيم ما كان في وسعها أن تناصر فيلماً إنسانياً له رنة اجتماعية لا لبس فيها. وفي الحقيقة إن خافيير بارديم تشارك جائزته هذه مع زميل له إيطالي هو إيليو جرمانو بطل الفيلم المشارك في المسابقة بدوره «حياتنا». ولقد بدا ودياً منظر الفنانين الأوروبيين وقد وقفا معاً يحييان لجنة التحكيم والجمهور في حفل توزيع الجوائز مطالبين السينمائيين بمزيد من الأفلام الاجتماعية.
من المؤكد أن مثل هذه الدعوة كان من شأنها أن تسر المخرج الإفريقي الوحيد الذي خرج من مولد «كان» ببعض الحمّص وهو التشادي محمد صالح هارون الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمه «الرجل الذي يصرخ» وهو إنتاج فرنسي تدور حكايته في انجامينا عاصمة التشاد من حول رجل يبيع ابنه إلى الحكومة حين تحتاج هذه جنوداً يخوضون الحرب الأهلية. والحقيقة ان هذا الفيلم الذي لم يثر أيَّ إعجاب حين عُرض اعتبر فوزه بالأحرى تشجيعاً لفرنسا كي تواصل إنفاق المال على نتاجات سينمائية آتية من بلدان فقيرة. وربما ينطبق الشيء نفسه على الفيلم الأخير الفائز في هذه الدورة البائسة لأكبر مهرجان سينمائي في العالم ونعني بهذا فيلم «شعر» للكوري لي شانغ دونغ والذي أعطي جائزة السيناريو.
كان هذا كل شيء في الدورة الثالثة والستين لمهرجان «كان». وأمام هذا «الكل شيء» يتساءل كثر الآن: أي مصير سيكون لمهرجان «كان» في الدورات المقبلة إن واصل هذا الانحدار من ناحية اختيار الأفلام المشاركة أو من ناحية اختيارات لجان التحكيم؟ سؤال مطروح بقوة، طُرح خلال أيام الدورة قبل إعلان الجوائز لكنه طُرح بشكل أكثر إلحاحاً بعد الختام الذي قد يكون صفق له فرنسيون كثر لكنه أثارحفيظة كثر من محبي السينما ومحبي «كان» نفسه في المقابل.
العدد 2820 - الأربعاء 26 مايو 2010م الموافق 12 جمادى الآخرة 1431هـ