عقدت أسرة الأدباء والكتاب أمسية لقراءة النصوص الشعرية الشبابية، حيث استضافت كلاً من الناقد حسن جعفر، وزكريا رضي، وحبيب حيدر، قدم حسن جعفر ورقة نقدية في مجموعة الياسمينية لحسين فخر، فيما قرأ زكريا رضي مجموعة خديجة للشاعر أحمد الستراوي ، بينما خصص حبيب حيدر ورقته لقراءة ديلمونيات الجلاوي.
في البداية أشار حسن جعفر إلى أن المطالع في التراث النقدي الشعري اليوم يرى مجموعة كبيرة من المناهج الأدبية التي تحاور فك مكنون السحر الشعري، فهو دائما وإلى الأبد يظل محيراً لكل المختصين على اختلاف مشاربهم النقدية؛ لأنه ببساطة هو الإنسان فالشعر من أعظم مكونات العقل البشري يعبر بوضوح عن تعقيد تعقيداته وتعامله مع عالمه الخاص والعام، ولكن من المفيد جداً ونحن في هذه العجالة أن نسلط الضوء حول واحدة من أهم معضلات الإبداع الشعري وهي التي تتعلق بماهية وطبيعة الشعر كفن من فنون اللغة وهي ملخصة في السؤال التالي :
وتساءل جعفر هل اللغة هي أداة الشعر وبالتالي يمكن معرفياً الفصل بين الشعر وأدواته؟ أم أن الشعر في جوهره هو اللغة ذاتها بحيث لا يمكن الفصل بينهما وبالتالي فلا وجود للمعنى الشعري خارج نطاق النظم اللغوي؟ المتفحص المتأمل يعلم أن اللغة الشعرية التي يستخدمها الشاعر لا تصف أو تصور المعنى الذي يريد وصفه أو تصويره، وإنما تقوم هـذه اللغة بأداء (أو تأدية) ذلك المعنى مما يمكّن الشاعر من تحويل قدراته التخيلية إلى أدوات لغوية ترقى بالتجربة الشعرية إلى أعلى مستويات الفن الشعري من خلال جعل اللغة تخلق واقعاً لغوياً قائما بذاته وبالتالي واقعاً شعرياً افتراضياً من اللغة وفي اللغة وليس من خلال استخدام اللغة لوصف أو تطوير حدث يقع في الواقع الفيزيقي خارج تلك اللغة.
وخلص جعفر إلى فكل تحليل وفق هذا النظام يتطلب الغوص في الإبداع اللغوي قبل أي شي آخر والتحليل هنا قوامه المستويات الأسلوبية مثل: المستوى النحوي، والمستوى الصوتي.
هذان المستويان الأسلوبيان واضحان بجلاء في تجربة صديقنا الشاعر حسين فخر فقد حشدت الآلة الشاعرة التي يمتلكها الشاعر حسين تلونات لغوية تساعده بجلاء في الإفصاح عن ذاته ، فإننا نجده يلعب على وتر الاختيار ليؤلف مقطعاً شعرياً عماده البناء الثنائي فيقول :
فجئنا جميلتين
وداهم أحلامنا منارتين فجائيتين
وأحلامنا طفلتين
ثم يقول في موضع آخر
وخمنتُ ..
قبرتين ..قبرّ .. تين
قبرتين
.. بسكرة.. إم
أكاذبُ ذاكرتين بدائيتين ككل الصفاء كبرنا
ولم تكبر الياسمينة ص14
وتابع «لاحظوا معي كيف فعلت صياغة المثنى المؤنث كل هذا السحر، كيف لا والصياغة هي جوهر اللغة ومخزونها الفريد فنراه يقول في مورد آخر:
يغنّون
يرتجف الكأس بين أصابعهم
والرياح تروجُ أبناءها بالنياح
تخون الرياح مراكبها
وتخون البحار سواحلها
يغنون
يتئد الكأس بين أصابعهم
يغنون
وأضاف لاحظوا قوله مراكبها ثم سواحلها ثم الكأس والرياح كله إبداع سمعي بصري يغذي ذائقة السمع ويمتع البصر في ديباجة جميلة متفردة.
والصياغة عند فخر تجعله يتحرك بريشة ذات مقاسات متساوية، ثم يبدل هذه الريشة ليعطي مقاسات أخرى تساعده على نسج عالمه الشعري الخاص.
إذاً اللعب على المظهر التركيبي سمة شعرية عميقة في تجربة شاعرنا حسين فنراه يفتتح (الياسمينة) بقوله:
مثل كل الصغار البريئين من غدهم
مثل كل البحار التي
ليس يفصلها عن موانئها
غير موَّال أنثى
مثل كل الحمامات داخلة
لا زورد سماواتها
مثل كل الأناشيد تمخرُ ناياتها
وتعود بأوّل ذاكرة للطيور
إلى أن يقول:
خذوا..
كل ما تحتويه منازلُنا
لون جدراننا
حقائب أسفارنا
وجع الأمهات
ودراجة الصبية الطيبين
أساور زوجاتنا المؤمنات
حكاية فارسنا وهو يوصي حبيبة
وخلص جعفر إلى أن كل هذه الأسماء المسندة إلى ضمير المتكلم الجمعي (الناء) هي ثيمة صياغة تعبر عن وعي الذات الشاعرة بما حولها، تحاور تصنع مع الآخر خطوط تماس شعرية رفيعة ومؤثرة، فيجد المتلقي نفسه مخدوعاً خدعة الثعلب المكار الذي يحاول بشكل غير بريء أن يدخل فريسته في عالمه الخاص بهدوء وروية ليسيطر عليها فارضاً نفسه عليها مستدرجاً إياها إلى العالم الخاص الذي يريده هو ليصل إلى رغباته.
نعم نرى حسين فخر كذلك فهو حتى عندما ينفك عن إضافة الأسماء إلى (الناء) فيفضي إلى ملكية المتلقي يعود مشغولاً بهذا الهاجس ليفرض نفسه بمستوى أعلى فيسند (الناء) إلى الأفعال بعد أن أسندها إلى الأسماء لأنه يعلم أن الفعل يضفي شيئاً مختلفاً عن الاسم فيقول بعد قليل من قوله
آنفاً:
نحن قيثارة الحُلم
نحن اصطفينا من الحزن أوتارنا
وبدأنا الغناء
وعالمنا الياسمين المغني
فجئنا
على غير موعدنا
وعالمنا الياسمين المغني
فجئنا
وحول المستوى البنائي، أشار جعفر إلى أنه إذا أردنا أن ندرس المستوى البنائي لتراكيب الجملة فقد أجاب رومان ياكبسون عن هذه المعضلة في مقاله الرائد (اللسانيات والشعرية) وهو يجيب عن التساؤل التالي:
كيف تحقق البنية اللفظية وظيفتها الشعرية؟ بمعنى على أي معيار لساني نتعرف، تجريبيا على الوظيفة الشعرية؟ وعلى وجه الخصوص، ما هو العنصر الذي يعتبر وجوده ضروريا في كل أثر شعري؟ يقدم ياكبسون إجابته عن هذا السؤال بالتذكير أولا بأهمية ما يدعوه بـ (النمطين الأساسيين للترتيب المستعملين في السلوك اللفظي الاختيار والتأليف) ثم يتابع ياكبسون تعريفه لهذه العملية فيقول:
إن الاختيار ناتج على أساس قاعدة التماثل والمشابهة والمغايرة والترادف والطباق، بينما يعتمد التأليف وبناء المتوالية على المجاورة
وتسقط الوظيفة الشعرية مبدأ التماثل لمحور الاختيار على محور التأليف... ويرفع التماثل إلى مرتبة الوسيلة المكونة للمتوالية. ويوضع كل مقطع في الشعر في علاقة تماثل مع كل المقاطع الأخرى لنفس المتوالية بحسب رومان ياكبسون.
هذا نراه جيداً في تجربة حسين، فهو يعطي الجملة النحوية القداسة الشعرية ليرفعها في مستواها اللائق والحقيق لها وهو مستوى القانون الذي يحكم كل الأفعال فنراه يقول في بداية الياسمينة:
مثل كل الصغار البريئين غدهم
مثل كل البحار
مثل كل الأغاني المليئات
وتابع جعفر لاحظ قوله (مثل كل) ويأتي بمضاف إليه جديد، أليس هذا تماثلاً إلى مرتبة الوسيلة المكونة للمتوالية الذي ينسخ المقاطع الأخرى معه في هذه المقطوعة الشعرية، ليجعل من هذه الجملة هي البنية العميقة التي تتوالى من جوفها البنيات الأخرى في ديباجة شعرية خاصة.
نراه في موضع شعري آخر يبرز الجملة المضافة والصفة معياراً لمقطعه الشعري ليكوّنا قوانين رياضية جبرية انظر إلى هذه المقطوعة الرياضية الشعرية عندما قال:
لم نر شيئاً مريباً
كان بعض الرجال يبيعون أحذية
وأشياء تافهة
مثل أقلامنا
شفرات الحلاقة
جوارب مستعملة
أوطاناً جاهزة
وخلص إلى أنه يظل هذا الهاجس التقني الفني يلعب الدور الأكبر في تجربة شاعرنا لا يتوقف يسير بنظام إلى نهاية الياسمينة فنراه يقول في نهايتها:
ليت نصف الخيول رخامٌ
وليت البنادق محشوة بالكلام
ليت هذا الهباء بهاء
وليت العناقيد من عنب
ليت ورد الشبابيك
ليست (معطلة) عن أداء مناسكها
هذه المقطوعة التي اتكأت على البنية النحوية «ليت» التي تعطي مساحة متناهية للتمني الذي يتناسب مع شعوره الإنساني الفياض البريء العفوي الذي يعطي قناعة للتجربة ولكنه لا يقيدها بفعل التقليد الممقوت، فالإنسان في أصله حر طليق يتحرك في كل فضاء ليصل إلى الدهشة التي تمتعه بأداة المفارقة اللغوية التي حمل لواءها شاعرنا بخصوصية فائقة، ألم ترى قوله:
ليت نصف الخيول رخام
بدل قوله الجملة التقليدية ليت الرخام نصف الخيول، فقد جمع بين الحرية المستغرقة في الخيول بالسكون الثابت في الرخام.
هذه سمة سرح فيها الشاعر ليؤسس لذاته الشعرية تفردها فنراه يقول في موضع آخر:
ممتشقين معاجمهم
بالبديهة
والناس لا تمتشق معاجمها وإنما تمتشق سيوفها فقد كسر شاعرنا تقليدية اللغة وطوّعها لتجربته، وكان محترفاً في هذه الآلة اللغوية، فنراه يقول:
هنا يقفُ الموت محترماً
كالجياد الأنيقات
أو مثل باقة حزن
نستها السماء على درج بيت
فعندما يصور الموت محترماً، والجياد أنيقات وللحزن باقة كباقة الورود كل ذلك فعل خاص عماده اللغة وآلية الانزياح ووظيفته الدهشة، وقد أجاد شاعرنا رسم ذلك الفعل شعرياً في مقطوعته التي يقول فيها:
تكبرُ اللغة العربية
والطفل يكبرُ بالكنايات
يكبرُ
يجتاز حدَّ التمدد
تسرح نورسة في قصيدته
فربط الطفل بالكنايات والدمع بالقافية والتراب بالكتاب ثم قوله كأنك مزقت خد التراب، كلها علاقات لغويه صنعت صورة شعرية عنصرها الرئيسي اللغة وما أدراك ما اللغة؟
في نهاية هذه الإطلالة نلاحظ أن التجربة عند شاعرنا حسين تجربة خاصة ملؤها التفرد الشعري، محورها الياسمينة، ولذلك كان موفقاً في عنوان مجموعته وكل المفردات الرئيسية في التجربة جاءت لتنسج عالم تلك الياسمينة مثل الحمامات - بالحلم - الوطن - الطيبون - الكلام . كل هذه الكلمات وما يرافقها من متشابهات تكوّن بعداً دلالياً يمثل صراعاً درامياً مع أعدائها في الخلق، الياسمينة وأعوانها في الخلق جيش قبال جيش آخر هم أعداؤها، وتظل التجربة تشتغل في فضاء شعري رحب مغطى بنكهة الفلسفة ومزيّن بصورة شعرية طويلة، كل هذا الصراع مثلته اللغة في انحرافاتها فكان لها هوية وجود؛ لأنها لامست الصراع فكانت به تحيى وبها يتمثل أيما تمثيل.
المفردة الشعرية الياسمينة، الحمامات، الحلم، الوطن، الطيبون، الكلام، عدد ورودها في التجربة 14 10 10 5 8 10
القصيدة وفق الجدول السابق حلم نفسي كبير لذات شاعرة تساوى فيها تقريبا حلم الحمامات بالكلام عن الياسمينة في وطن فيه الطيبون فالحمامة كرمز له حق الفعل يساوي في القدرة حلمه الكبير بالكلام عن الياسمينة في وطن الطيبين، هذه المساحة الدلالية المتشابكة التي ينسج الشاعر من خلالها بأدواته البنائية صوتا مدوياً يجذب القارئ لأنه استعمل أعلى آلة في السمع عن طريق التكرار في بعده الصوتي وعلى صور مختلفة:
أ- تكرر الجملة في قوله:
مثل كل الصغار
مثل كل الحمامات
مثل كل الأناشيد
مثل كل الأغاني
ب - تكرار الكلمة في قوله:
واحداً واحداً
ونكشف أعينهم
وحداً واحداً
ونعرف سيماءهم
وأسماءهم
واحداً واحداً
كان ما بيننا
عشرة
وخبزاً وملحاً
وسكرة واحدة
التكرار أداة لغوية ينسج بها شاعرنا صورته الفنية فيجعل فيه روح امتداد الصورة وشموليتها بل حتى فرادتها وخروجها عن المألوف، كله. نراه يقول في نهاية مجموعته:
ليت نصف الخيول رخام
وليت البنادق محشوة بالكلام
ليت هذا الهباء بهاء
وليت العناقيد مثل عنب
ليت ورد الشبابيك
كيف لا يكون لهذه الموسيقى حضور وقد صرح بأهميتها الشاعر في مقابلة صحافية أجريتها معه عندما قال بما هو نصه:
لا أمارس الموسيقى في نصي إلا بما يقترحه النص، نصي ليس بريئاً من تدخلاتي التي أبنيها عروضياً وموسيقياً، لكن لا يعدو هذا التدخل كونه عفوياً، أحب الموسيقى حاضرة بمفاتنها في نصبي وفي أي نص آخر أقرؤه، الإيقاع إيقاع للمتلقي...
لا اكتب النص إلا بعد أن أجدني موسيقاراً، تستهويني لعبة الإيقاع كثيراً كثيراً؛ لأني الموسيقى جداً
العدد 2820 - الأربعاء 26 مايو 2010م الموافق 12 جمادى الآخرة 1431هـ