العدد 2820 - الأربعاء 26 مايو 2010م الموافق 12 جمادى الآخرة 1431هـ

دلمون: الهوية التي تبحث لنفسها عن هوية

عندما يتحدث المؤرخون عن هوية الدلمونيين فإنهم يقصدون سكان جزر البحرين قديماً, وعندما يتحدثون عن فخار دلمون فإنهم يقصدون الفخار الذي عرف باسم «فخار باربار» وكذلك عند الحديث عن أختام دلمون فإنهم يتحدثون عن تلك الأختام التي نشأت على جزر البحرين وانتشرت في مناطق مختلفة, باختصار عند الحديث عن «ثقافة دلمون» فإنهم يقصدون ما عرفت أيضاً باسم «ثقافة باربار» التي تكونت على أرض جزر البحرين بعد العام 2200 ق. م. وانتشرت في شرق الجزيرة العربية وامتدت حتى جزيرة فيلكا. وهذا يعني أن اسم «دلمون» يمتلك هوية اسمية وهوية أسطورية لكنه يبحث لنفسه عن هوية حضارية ولم يتحصل على تلك الهوية إلا بعد أن قرن بجزر البحرين فاستبدل اسم «باربار» باسم «دلمون». لم تكن البحرين بحاجة لاسم دلمون بقدر ما كان الاسم بحاجة لهوية حضارية. ولكن اتفق غالبية الباحثين في تاريخ دلمون أن دلمون الأولى كانت في شرق الجزيرة العربية ومن ثم انتقلت لجزر البحرين وبالتالي يجب أن يكون لاسم دلمون هوية حضارية انتقلت معه من شرق الجزيرة العربية للبحرين, فهل فعلاً كانت له هوية حضارية سابقة قبل ارتباطه بجزر البحرين؟ أو أن جزر البحرين هي من أعطته الهوية الحضارية؟ فإن صح الاحتمال الأخير فإن دلمون, في واقع الأمر, «هوية اسمية تبحث لنفسها عن هوية حضارية».


دلمون في شرق الجزيرة العربية

دانيال بوتس في العام 1983م كان أول من ادعى أن دلمون نشأت منذ عصر الوركاء في شرق الجزيرة العربية وقد كانت تمتد من منطقة أبقيق حتى جزيرة تاروت وبعدها أكملت الامتداد لتشمل الإحساء وجزر البحرين ولتصل أخيراً حتى جزيرة فيلكا في الكويت ( Potts 1983). وقد تحدثنا في الفصل السابق عن بداية ذكر دلمون منذ حقبة الوركاء ويبدو من ذكرها أنه كان لدلمون في تلك الحقبة القديمة هوية قائمة وكان لها بضائع خاصة تصدر لحضارة وادي الرافدين وكان لها جباة للضرائب, وبالتالي فإنه يمكننا أن نلتمس وجود هوية حضارية لدلمون قبل أقدم ذكر لها قرابة العام 3200 ق. م.. ولتقييم فرضية بوتس رجعنا لدراسة ماريا بيسينجير والتي ترجمة عنوانها «إرث دلمون» (Legacy of Dilmun) التي قدمتها كأطروحة لنيل درجة الدكتوراه العام 1983م عن أعمالها في التنقيب في مواضع مختلفة في شرق الجزيرة العربية والتي تعتبر من أوائل الدراسات العلمية لدراسة آثار شرق الجزيرة العربية. درست بيسينجر آثار وقبور منطقة أبقيق والرفيعة وأم الرمضة وأم النوسي وجزيرة تاروت وقد عثرت على العديد من قطع الفخار التي يعود تاريخها لحقبة الوركاء وتمتد حتى حقبة السلالات السومرية المبكرة, وقد تمكنت من تحديد مصادر ذلك الفخار لحضارة وادي الرافدين وحضارة تيبة يحيى في جنوب شرق إيران وغيرها. وقد عثرت بيسينجر على أربعة أصناف من الفخار محلية الصنع إلا أن هذه الأصناف الأربعة لم تكن هي العامل المشترك بين مناطق شرق الجزيرة العربية بل إن الفخار المستورد هو العنصر الرابط بين كل المناطق في شرق الجزيرة العربية (Piesinger 1983, p. 464). وقد عثرت بيسينجر أيضاً على الفخار المميز لثقافة باربار في جزر البحرين (سنناقشه بالتفصيل في فصل لاحق). وقد عرفت هذه الحقبة في شرق الجزيرة العربية باسم حقبة باربار، إلا أن تتابع تطور فخار حقبة باربار على جزر البحرين يبدو أكثر وضوحاً وتتابعاً (انظر الجدول المرفق) حيث استنتجت بيسينجر أن هناك فترتين للاستيطان في شرق الجزيرة العربية الأولى ما بين 3300 ق. م. - 2400 ق.م والثانية ما بين 2100 ق. م. - 1800 ق. م. (Piesinger 1983, p. 467).


انتقال «دلمون» لجزر البحرين

هناك إشكالان يتحديان فرضية بوتس التي تنص على أن دلمون الأولى نشأت في شرق الجزيرة العربية ومن ثم انتقلت للبحرين، الأول وهو يخص التسلسل التاريخي القديم في شرق الجزيرة العربية، والثاني يتعلق بطريقة انتقال الهوية وانتشارها.

1 - التسلسل التاريخي لشرق الجزيرة العربية

في الجدول المرفق يمكن مشاهدة التسلسل الزمني في شرق الجزيرة العربية منذ عصر الوركاء (3200 ق. م.) وحتى السلالة السومرية المبكرة الثالثة أ (2500 ق. م) لا حظ وجود فجوة تاريخية قدرت بقرابة 200 عام على أقل تقدير بعدها ظهرت هوية دلمون على جزر البحرين متمثلة في ما عرف باسم «ثقافة باربار» وبعدها استبدل البعض الاسم بمصطلح «ثقافة دلمون». ومن خلال هذا التسلسل لا يلاحظ وجود انتقال حضارة من شرق الجزيرة إلى جزر البحرين.

2 - انتقال الهوية الحضارية

سبق أن ذكرنا أن بيسينجر صرحت في دراستها أنه لا يوجد عامل محلي موحد لشرق الجزيرة العربية، بمعنى لا توجد هوية واحدة متوحدة وواضحة, نعم هناك جماعات محلية كونت لها هوية، لكن لم يكن لها ذلك الوجود الذي يكون هوية واحدة متوحدة ذات قوة بحيث تصدر هويتها للخارج. وهذا لا يتعارض مع كون جزيرة تاروت ذات أهمية كبرى بالنسبة لطرق التجارة القديمة، ولكن السؤال المطروح ما هي هويتها الحضارية؟ وهل صدرت تلك الهوية للخارج؟ على عكس ذلك نلاحظ حضارة باربار التي تكونت على جزر البحرين فقد كونت لنفسها هوية واحدة واستطاعت أن تنتشر حيث امتدت لشرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا.


الهويات المتصارعة لأجل دلمون

يبدو مما سبق أن فرضية بوتس مازالت تحتاج لتمحيص دقيق في ضوء المعطيات والمكتشفات الأثرية الحديثة وأن الأقلية الذين مازالوا يبحثون عن دلمون الأولى على حق في ذلك. ولا نعلم بالتحديد لأي سبب تتصارع ثقافات ذات هوية حضارية قوية لأجل هوية اسمية, فالرابح الأخير في كل ذلك هو اسم دلمون الذي يبحث لنفسه عن هوية حضارية. ربما تبحث تلك الحضارات عن إرث دلمون الأسطوري الذي يجعل من دلمون توازي «الفردوس» أو «جنة عدن». أو ربما يكون لغاية البحث فقط وتقديم اجتهادات شخصية في قضية لم تحل بعد. فإن كانت فرضية بوتس ليست حقيقة دامغة وإنما مجرد اجتهاد فبالتالي لا يمكننا أن نمنع الآخرين من تقديم اجتهادهم بشرط تقديم الدلائل والحجج.


أين هي دلمون الأولى؟

قدم عدد من الباحثين اجتهادات متعددة، من ذلك فرضية الباحثة تيريزا هوارد كارتر (وقد تبعها عدد من الكتاب) التي تناولناها سابقاً والتي تنص على أن دلمون هي منطقة القرنة في العراق أو في منطقة ما في جنوب العراق. ومن أشد المتمسكين بفكرة وجود دلمون في جنوب العراق هو Walter de la Torre الذي أسس موقعاً على شبكة الانترنت يناقش فيه دلائل وجود دلمون في جنوب العراق فافترض أولاً أنها القرنة، وفي تحديث آخر لموقعه لم يقتنع بالقرنة بسبب مستجدات حديثة، وقد افترض موقعاً آخر هو تل اللحم وفي آخر تحديث له في العام 2008م قرر أن دلمون مازالت مجهولة ويتوجب البحث عنها في مكان ما في جنوب العراق.

فرضية أخرى ذات صيت قالت إن دلمون الأولى كانت في تركيا باعتبار أن أقدم العلاقات التجارية كانت بين سومر وتركيا، حيث يعتقد البعض أن تركيا هي مصدر ذهب سومر، وبذلك تكون تجارة سومر مع تركيا أقدم من تجارتها مع شرق الجزيرة العربية.


خيال البحث عن دلمون

بعض الباحثين عن دلمون الأولى شطح بخياله في البحث عن دلمون الأولى فزعموا أنها تقع الآن تحت الماء وذلك أنه حدثت فترات ارتفاع وانخفاض في مياه الخليج العربي في السابق (ناقشناه بالتفصيل في جزء بناء النموذج), فدلمون قد تكون أساساً تحت سطح البحر، حيث إنه لما انخفضت مياه الخليج لأقل ما يمكن تكونت حضارة دلمون الأولى في قاع الخليج في المنطقة ما بين جزر البحرين وشط العرب ثم ارتفعت المياه مجدداً فغطت تلك الحضارة التي عادت للظهور من جديد، ولكن لا يمكننا إثبات ذلك لعدم وجود باحثين متخصصين في الأركيولوجيا البحرية ليغوصوا ويبحثوا في إذا ما كانت هناك آثار لحضارة تحت مياه الخليج, أضف إلى ذلك أن تواريخ ارتفاع وانخفاض مياه الخليج موثقة وهي لا تتوافق مع تواريخ ظهور واختفاء دلمون، حيث إنه في الفترة التي ظهرت فيها دلمون الأولى كانت مياه الخليج أعلى من المعدل الحالي بقرابة مترين أي أن المياه كانت تغطي جزءاً كبيراً من سواحل البحرين (انظر المخطط المرفق), فأين نشأت دلمون الأولى؟


دلمون وثقافة «استعارة التاريخ»

نلاحظ مما سبق فيما يخص التاريخ الحضاري القديم للبحرين أن هناك عملية استعارة للتاريخ. وقد حدثت تلك الاستعارة بسبب ارتباط اسم دلمون بالبحرين في فترة تاريخية محددة، حيث استغل البعض ذلك ربما بسبب جهلهم للتفاصيل أو لحشو الفراغات والفجوات التاريخية فعمدوا لاستعارة كل ما يخص دلمون ليربطه بتاريخ البحرين القديم. حتى مع وجود شكوك أن دلمون الأولى هي شرق الجزيرة العربية إلا أن ذلك لم يمنع البعض من أن يبني على أن تلك حقيقة ثابتة ويبني عليها.

لا نختلف أن هناك حضارة عريقة نشأت فوق أرض البحرين قديماً ولها هويتها وخصائصها وهي الأمور التي يجب أن تستنبط منها الحقائق وتصاغ عليها النظريات والفرضيات القابلة للاختبار, إلا أن البعض مازال يركن للفرضيات غير المثبته ليجعل منها حقائق دامغة لتدمج في تاريخ المنطقة ولتصبح من المسلمات التاريخية التي تجاوزت حد المعقول. على سبيل المثال الباحث عبدالجبار السامرائي في دراسته «رحلة جلجامش إلى دلمون» بعد أن غاص في سبر أحداث «ملحمة جلجامش» وعدد العديد من الاستنتاجات والتحليلات وصل لنتيجة يلخصها بقوله:

«لذا، فإن دلمون لابد أن تكون إبان العصر السومري القديم (2900 ق. م. - 2350 ق. م.) والعصر السومري الحديث (2150 ق. م. - 1900 ق. م.) هي جزر البحرين على الأرجح».

السامرائي هنا لا يترك مجالاً للشك فدلمون الأولى واللاحقة هي جزر البحرين وكل ما ذكر عن دلمون منذ عهد الوركاء يخص جزر البحرين ولا مكان آخر غيرها.


تعميم ثقافة استعارة التاريخ

يبدو أن ثقافة استعارة التاريخ لم تقتصر على فترة دلمون أي الفترات القديمة بل تعدت ذلك للفترات اللاحقة لتاريخ البحرين, فثقافة «استعارة التاريخ» أصبحت المبدأ والأساس الذي يكتب به تاريخ العديد من فترات تاريخ جزر البحرين. أحد الأسباب التي أدت لذلك سبب يتشابه لحد التطابق مع السبب السابق المتعلق بدلمون، حيث إنه ناتج من جراء كون جزر البحرين قديماً جزء من البحرين الكبيرة حيث كان اسم البحرين شاملا لجزر البحرين وشرق الجزيرة العربية وعليه تم تعميم تاريخ شرق الجزيرة العربية على جزر البحرين. على سبيل المثال, من المسلمات في تاريخ جزر البحرين عند غالبية كتاب تاريخ البحرين أن آل عصفور حكموا الجزيرة بعد العيونيين وهذا خطأ، فقد حكمت من قبل عائلة محلية هي «بني معالي» وقبورهم موجودة في مقبرة أبي عنبرة وحول مسجد الخميس, ومن بعد «بني معالي» حكمها الهرمزيون ولا ذكر لآل عصفور أنهم حكموا جزر البحرين.

كذلك من أسباب تعميم التاريخ أو استعارته هو تشابه الأسماء والتوهم والتعصب وبناء تاريخ وهمي للتفاخر، ونجد غالبية هذه الأسباب واضحة عند من تصدوا لكتابة تاريخ القرى في البحرين على سبيل المثال الربط بين قرية بني جمرة وجمرات العرب على الرغم من عدم وجود أدلة تاريخية توضح استيطان جمرات العرب لجزر البحرين. كذلك قرية دار كليب، وزعم العامة أن لهم علاقة بقبيلة كليب فقط لمجرد تشابه الأسماء. وغيرها من الأمور التي اعتبرت من المسلمات في تاريخ البحرين أو القرى وكلها بسبب التشابه والتوهم. لنا تاريخنا الذي نعتز به ولسنا بحاجة لاستعارة تاريخ شعوب أخرى. البعض يعتقد أنه عندما يستعير التاريخ بسبب جهله للتاريخ أو توهمه فإنه سيحافظ على جزء من الهوية وهو لا يعلم أنه بذلك لربما تسبب بضياع الهوية بأكملها.

العدد 2820 - الأربعاء 26 مايو 2010م الموافق 12 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً