تسلح المرابطون بدعم الخلافة العباسية ومباركة الفقهاء لدورهم التوحيدي في منطقة المغرب. وتلقى يوسف بن تاشفين التشجيع من العلماء لمواصلة نشاطه في الميدان العسكري.
إلا أن عناصر دعم الخليفة العباسي وتشجيع العلماء ومباركة الفقهاء لم تكن كافية لتحقيق المشروع الكبير، وهو مواجهة تعاظم قوة الفرنجة في الأندلس وتهديد الوجود الإسلامي هناك.
كان لابد من نداء أندلسي يساعد على نقل حركة المرابطين من المغرب إلى أوروبا تستظل شرعيته لعبور البحر ومواصلة مهمتها التي باشرتها في البر المقابل.
آنذاك كان «أمراء الطوائف» في وضع صعب، كما ذكرنا، وبلغ إذلال ممالك الفرنجة لهم حدا لا يُطاق، فكانوا يدفعون الجزية ويقدمون الهدايا ويقاسمون أرزاقهم مع تلك الممالك. وكان الفرنجة يطلبون المزيد ويلعبون بخلافاتهم حتى وصلت الأمور إلى حد الشلل الكامل، الأمر الذي فرض على «أمراء الطوائف» اتخاذ خيار اضطراري لا بديل عنه، وهو طلب العون من المرابطين والسماح لهم بعبور البحر إلى البر الأندلسي لمواجهة ضغوط الفرنجة وتعاظم استبدادهم.
اختلف المؤرخون على تحديد المرات التي عبر فيها جيش يوسف بن تاشفين إلى الأندلس بين واحدة وثلاث مرات. واختلفوا أيضا على تحديد سبب مباشر اتخذه المرابطون ذريعة لتصفية «أمراء الطوائف» وإعادة توحيد ما تبقى من الإمارات المسلمة في دولة مركزية مشتركة ترفع راية واحدة.
هناك تحليلات مختلفة، لكنها تتقاطع في نقاط محددة، منها أن أمراء الطوائف كانوا بين خيارين: إما قبول دعم دولة المرابطين وإعطاء شرعية لعبور قواتها وتأمين مكانة خاصة لها في توازنات الداخل الأندلسي، أو تعريض ممالكهم للانهيار وانقراض دولهم واحدة بعد أخرى وصولا إلى إنهاء وجودهم على يد الفرنجة. ورجح «أمراء الطوائف»، باقتراح من أقواهم المعتمد بن عباد، خيار دعوة قوات المرابطين لدخول الأندلس وتفضيل سيطرتها على مواصلة سياسة الذل مع الفرنجة.
لم يكن أمام «أمراء الطوائف» من خيار ثالث. وقبولهم بدعوة قوات المرابطين إلى تقديم الدعم جاء عن ضعف وحاجة وليس عن وعي تاريخي لمسار الصراع ومصير الإسلام في الأندلس. بينما جاء إسراع يوسف بن تاشفين لتلبية نداء الاستغاثة الذي تلقاه من المعتمد بن عباد بتكليف من «أمراء الطوائف» لينسجم مع مسألتين: الأولى تاريخية تتمثل في نمو شوكة المرابطين وطموحهم لتحقيق الحد الأقصى من النفوذ. والثانية سياسية تتمثل في تشجيع العلماء والفقهاء للدور المميز لحركة ابن تاشفين، إضافة إلى الرعاية التي يلقاها من مركز الخلافة في بغداد بهدف الحدّ من المخاطر الناجمة عن انهيار القوة المسلمة في المغرب.
جاءت الخطوة في وقت كان يوسف بن تاشفين يتطلع إلى الأندلس بينما تأرجح مأزق «أمراء الطوائف» بين قوتين الفرنجة من الشمال، والملثمون (المرابطون) من الجنوب. فلجأ الأمراء إلى أقواهم (المعتمد بن عباد) وكلفوه بمكاتبة ابن تاشفين لطلب التفاهم والنصرة وأجابهم يوسف بالموافقة وحصل التعاون لصدّ تقدم الفرنجة.
من هذه النقطة يبدأ افتراق المؤرخين، فهناك من يقول إن المرابطين عبروا مرة واحدة في سنة 479 هجرية (1086م) واستقروا في تلك الديار وباشروا بالاستيلاء على دويلات أمراء الطوائف، وهناك من يذكر أنهم عبروا البحر ثلاث مرات: الأول في 479 هجرية، والثاني في 481 هجرية (1088م)، واتخذ ابن تاشفين في العبور الثالث سنة 483 هجرية (1090م)، قراره بتصفية «أمراء الطوائف» والاستيلاء على أملاكهم بعد ورود أخبار تشير إلى معاودة «الأمراء» اتصالاتهم بالفرنجة بهدف تشكيل جبهة مشتركة ضد المرابطين، إضافة إلى وصول فتاوى الفقهاء والعلماء من المشرق تجيز إنهاء حكمهم.
ينفي بعض المؤرخين أخبار الاتصالات ويذكر بعضهم أن سبب انهيار التفاهم يعود إلى تغير موازين القوى في الأندلس لمصلحة المرابطين وطمع يوسف بن تاشفين بأرزاق «أمراء الطوائف» بعد أن رأى النعيم الذي يعيشون فيه قياسا بقساوة العيش في موطنه الأصلي (الصحراء المغاربية). وهناك من يغلّب من المؤرخين العامل العقائدي ويلقي الضوء على الدور الخاص الذي قام به الإمام الغزالي (أبوحامد) في تحريض ابن تاشفين وتشجيعه على توحيد البرّين المغربي والأندلسي تحت راية واحدة لمواجهة خطر الإفرنج بعد أن نجحوا في الاستيلاء على صقلية وإنهاء الحكم الإسلامي هناك في سنة 484 هجرية (1091م).
آنذاك برز دور الإمام الغزالي في حقلي الفقه والفكر وكلفه الوزير نظام الملك التدريس في نظامية بغداد والإشراف على برامجها التربوية وهو أمر باشره في 484 هجرية، وهي السنة التي اتخذ فيها ابن تاشفين قرار تصفية جيوب «أمراء الطوائف» ودويلاتهم.
بعيدا عن اختلاف الآراء وتحديد الأسباب وتحليل دوافع حركة ابن تاشفين، فإن النتائج واحدة وهي بدء انهيار عصر «أمراء الطوائف» بين العبور الأول في 479 هجرية ونهاية عصرهم في سنة 492 هجرية (1098م). فالفاصل الزمني بين توجيه ابن عباد نداء الاستغاثة وإقدام ابن تاشفين على الاستيلاء على اشبيلية واعتقال ابن عباد ونقله مخفورا إلى المغرب لا يزيد عن خمس سنوات (484 هجرية). وهي فترة عرفت خلالها الأندلس ازدواجية السلطة ساهمت في تأسيس علاقات مضطربة ونمو الشكوك المتبادلة بين الطرفين على رغم وجود مصالح مشتركة وخطر واحد يتمثل في استقواء الفرنجة وتصعيد هجماتهم على المسلمين.
قبل تحول الأندلس من عصر الطوائف إلى عصر المرابطين مرت البلاد في فترة انتقالية حصلت فيها معارك كبرى مع الفرنجة، نجح المسلمون بقيادة ابن تاشفين في تسجيل انتصارات ساهمت في تأخير سقوطها عشرات العقود (نحو400 سنة) وذلك بفضل تعاون القوتين المسلمتين في المغرب والأندلس على إثر حصول العبور الأول في سنة 479 هجرية. وكان أبرز تلك المعارك الكبرى: موقعة الزلاقة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2387 - الخميس 19 مارس 2009م الموافق 22 ربيع الاول 1430هـ