العدد 2814 - الخميس 20 مايو 2010م الموافق 06 جمادى الآخرة 1431هـ

الماركسية... تغيير العالم لا تفسيره

نشوء النخبة الأوروبية (14)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل أن تصل أوروبا إلى هذا الطور من تعارض القوة وانفجارها الذاتي مرت القارة بمحطات كان لابد أن تجتازها حتى تصل إلى مستوى غير قادر على ضبط التوازن الداخلي تحت سقف السلم الأهلي. آنذاك في مطلع القرن التاسع عشر بدأ استخدام أدوات الصناعة في الزراعة ما أحدث فائضاً في الإنتاج الغذائي الأمر الذي ساهم في نمو دور طبقة ملاك الأرض الكبار (النبلاء) وتعزيز تأثيرهم السياسي على الحكومات.

واجهت ألمانيا في تلك الحقبة أزمة مزدوجة بسبب نمو التعارض بين قوة رأسمالية صاعدة تضغط باتجاه نهوض دولة مركزية توحد السوق القومية وتمنع الكنيسة (المتحالفة مع النبلاء) من التدخل في شئون السياسة والإدارة وبين طبقة نبلاء تريد توظيف فائض الإنتاج الغذائي في إطار قنوات تجارية تقليدية تحافظ على ضوابط موروثة عن شبكات يشرف الاكليروس على إعادة توزيعها.

هذا التعارض بين القوتين (الحديثة والقديمة) ساهم في تعطيل نهوض دولة ألمانية مركزية وتأخير الوحدة القومية (السوق) ما أعطى ذلك المجال الحيوي لنهوض اتجاهات فلسفية متضاربة في توجهاتها الايديولوجية في حقبة زمنية قصيرة. التعارض المذكور يفسر لماذا شهدت ألماينا (المحطمة آنذاك) طفرة فلسفية انعكست في توجهاتها الايديولوجية على النخبة السياسية وأفكارها.

في تلك المرحلة مثلاً ظهر كما قلنا شوبنهاور الذي زاوج بين العنف والقناعات الدينية، وأيضاً هيغل الذي ربط بين العقلانية ونزعة محافظة. هيغل كان يتابع الأخبار يومياً ويقرأ المشكلات (مدير تحرير صحيفة في 1807-1808) التي تعطل الوحدة وتعترض الدولة القومية. فهو أيّد توحيد ألمانيا منذ العام 1802 ومدح أفكار ميكافيلي بشأن الدولة المركزية وبصفتها «مجموعة بشرية اتحدت من أجل الدفاع المشترك عن مجموع مصالحها». ولاقى هيغل، الذي أيّد الوحدة وحرص على الدفاع عن الجيش في صيانة الدولة القومية، الإعجاب من التيار القومي الألماني وطموحه نحو توحيد السوق من طريق القوة. وفكرة القوة التي فلسفها هيغل في اعتبار أنه «لا يحقق الحق سوى القوة» تجاوبت نسبياً مع رغبات فيخته وعواطفه القومية وخطاباته الحماسية للأمة الألمانية.

كل هذه الاتجاهات الأيديولوجية الدينية والقومية والاجتماعية تشكلت في تيارات سياسية لاحقاً وبدأت تضغط على الدولة البروسية من مواقع متخالفة فلسفياً. فالفلسفة في معنى من معانيها الهيغلية ليست مثالية وخارج الزمن ومشكلات العصر وإنما هي «فهم ما هو قائم». وهذا الفهم لما هو قائم أنتج مسارات أيديولوجية متشعبة في القراءة والمنهج والرؤية. فيخته وشوبنهاور تركا تأثيرهما على صوغ أفكار داروين ونيتشه. هيغل وفيورباخ ساهما مباشرة في تقديم الخامات لإنتاج الماركسية لاحقاً، وهي فلسفة ستلعب دورها العالمي في القرن العشرين.

في هذا السياق الألماني المتأخر زمنياً في تحقيق الوحدة القومية والمضطرب في النمو الاجتماعي بسبب تعارض مصالح اقتصادية حديثة (الصناعة) مع قوة تقليدية استخدمت الآلات لتطوير الإنتاج الزراعي وبين قوة غير مرئية تمثلت في النمو السكاني بدأت بروسيا تشهد تجاذبات عنيفة تقارب ما حصل في انجلترا بين القرنين السادس عشر والسابع عشر وفرنسا بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. فاللحظة الألمانية بدأت تقترب من الثامن عشر وصولاً إلى القرن التاسع عشر ما أدى إلى مواجهات عمالية «طبقية» لاحقاً تأسست فلسفياً على طفرة فكرية قادتها «نخبة مختارة» ساهمت في إنتاج ما يسمى بالايديولوجيا الألمانية.


ماركس - إنغلز

في هذا الفضاء المضطرب والمتغير ولد كارل ماركس في ترييف العام 1818 في أسرة تهتم بالعلم تحولت حديثاً إلى المذهب البروتستانتي. أنهى ماركس دراسته الثانوية في العام 1835 وتوجه إلى بون ثم جامعة برلين. وهناك تأثر بأفكار التيار الهيغلي اليساري وبدأ يتشبع بفلسفة هيغل الجدلية التاريخية. واستمر على نمطه المذكور إلى أن تخرج حاملاً شهادة دكتوراه في الفلسفة. وعنوان الأطروحة يعطي فكرة عن توجهات ماركس السجالية في فترة شبابه. فالأطروحة التي صاغها في العام 1841 (23 سنة) تتحدث عن الاختلاف الفلسفي بين ديمقريطس وابيقور ما يشير إلى بداية اكتشاف لخطوط تماس فكرية كانت تعاني منها «النخبة الألمانية» وانشطرت بسببها إلى مسارات توزعت بين أفلاطون وأرسطو من جانب والرواقية والابيقورية من جانب آخر.

بعد تخرجه من الجامعة اختار ماركس مهنة الصحافة لتأمين عيشه ولم يتوجه إلى توظيف شهادته للحصول على موقع أكاديمي في كلية الفلسفة. واختياره لهذه المهنة الشاقة كان موفقاً لأنها تلبي حاجته لمتابعة الأخبار وملاحقة التطورات يومياً من دون أن يضطر إلى مغادرة اهتماماته الأخرى. ماركس آنذاك قرر الانخراط في المجال السياسي فعمد إلى تحويل الصحيفة التي يرأس تحريرها إلى منبر للدفاع عن أفكار ما أطلق عليه التيار «الديمقراطي الثوري». وبدأ من موقعه المهني يرفد الفضاءات السياسية بالخبر اليومي والمتابعة الدؤوبة للحوادث التي تعصف بألمانيا والقارة الأوروبية.

الربط بين المجال السياسي والعمل الصحافي لم يمنع ماركس من متابعة مجاله الفلسفي ويدخل في سجالات عنيفة مع اتباع هيغل. آنذاك بدأ ماركس يطالع كتب «الاقتصاد السياسي» وقرأ كتابات فيورباخ وفلسفته الطبيعية التي بدأت هيغلية مثالية وانقلبت إلى مادية ملحدة. وهكذا قرر ماركس في العام 1844 الانتقال إلى المذهب المادي فلسفياً وتأييد الشيوعيين متأثراً بالانتفاضات العمالية التي اندلعت في ألمانيا وغيرها.

تحمس ماركس الشاب إلى أفكار المنظمات اليسارية والشيوعية وأخذ بتوظيف مهنته لخدمة تلك الاتجاهات العنيفة والمتطرفة ما دفع السلطة إلى إغلاق صحيفته الثورية فاضطر إلى الانتقال إلى باريس في العام 1844 ليبدأ من هناك بمساجلة الاشتراكية المثالية وفلسفة هيغل.

في باريس سيحصل تحول كبير في حياة ماركس الشخصية وتمثل في لقاء صديقه الوفي فريديرك انغلز وبناء صداقة مثمرة ستستمر نحو 40 عاماً.

انغلز الذي ولد في العام 1820 في بارمن (ألمانيا) لا يختلف كثيراً عن آراء ماركس وتوجهاته الفلسفية والسياسية. فهو اضطر في شبابه إلى الخدمة العسكرية (تجنيد إجباري) في برلين ودخل الجامعة واستمع إلى محاضرات فلسفية ولكنه لم يتابع دراساته الأكاديمية بسبب انشغاله بالسياسة وحماسه للانتفاضات العمالية.

انضم انغلز في بداية نشاطه إلى الجناح اليساري لتيار الهيغليين الشبان لكنه انقلب عليه وبدأ يناقش مثالية هيغل، وانتقد شيلنغ واتهمه بالصوفية في كتاب صدر العام 1842. غادر انغلز ألمانيا اضطراراً إلى انجلترا رافضاً دراسة التجارة كما أراد والده. وهناك أقام في مانشستر (أهم مدينة صناعية أوروبية في تلك الأيام) واشتغل في شركة تجارية ما وفر له فرصة الاطلاع على ظروف الطبقة العاملة في انجلترا (أصدر كتاباً عنها في 1845) مضافاً إليها متابعة قراءة كتب «الاقتصاد السياسي» الأمر الذي شجعه على كتابة رد في العام 1844 ينتقد فيه أفكار ذاك الحقل الجديد في التفكير السياسي الاقتصادي. قرأ ماركس الكتاب وأُعجب به ما كان فاتحة تعارف بين الشابين حين انتقل انغلز إلى باريس وبدأ حياته المشتركة مع صديق عمره ولم تتوقف حتى رحيل ماركس في العام 1883.

خلال هذه الفترة (39 سنة) سيبدأ الثنائي تطوير الفلسفة الماركسية انطلاقاً من السجال النظري (كتب الردود) والمتابعة اليومية للأخبار اعتماداً على المهنة (مراسل صحافي) والانخراط الميداني الدائم بالنشاط السياسي. أعطى الربط العملي بين الفكر (التنظير الفلسفي) والمهنة (ملاحقة التطورات والطوارئ) والنشاط السياسي (المنظمات والهيئات والنقابات) حيوية خاصة لسجالات الثنائي الماركسي.

الميزة هذه لم تتوافر مثلاً لكانط الذي اتصفت حياته بالأكاديمية والانزواء في البيت والانطواء على الذات للتأمل والتفكير بالكون والزمن والعقل والوجود. هيغل مارس العمل الصحافي فترة محدودة (مدير تحرير) تابع خلالها الحوادث والتطورات والأنباء يومياً. وحين غادر عمله اضطر للعودة إلى القطاع التعليمي وإلقاء محاضراته الجامعية لكنه استمر في ملاحقة الأخبار والانجراف نحو يوميات خاصة اتسمت باللهو وحفلات السمر الليلية المعطوفة على اهتماماته الأكاديمية ومتابعته للمستجدات السياسية والاكتشافات والاختراعات.

الثنائي ماركس - انغلز نجح باكراً في الجمع بين الفكر العام (الفلسفة) والممارسة التي تمثلت في المتابعة اليومية (الصحافة والسياسة) ما أدى به إلى إنتاج مجموعة كتب نظرية ترد على فلاسفة العصر وتساجل مناهجهم إلى جانب تأليف سلسلة بحوث تعالج حوادث القارة وتحولاتها العنيفة ومتغيراتها العلمية والمعرفية والاقتصادية.

بسبب هذا النشاط المفتوح على قضايا اللحظة الألمانية - الأوروبية أعلن الثنائي باكراً أن وظيفة الفلسفة تبدلت، فهي سابقاً كانت تفسر العالم وإنما الآن فهي تطمح إلى تغييره. انتقال وظيفة الفلسفة من التفسير إلى التغيير شكل خطوة انعطافية في مسارات وعي الثنائي ودوره اللاحق في صناعة الحدث والتأثير عليه.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2814 - الخميس 20 مايو 2010م الموافق 06 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:20 م

      عبدعلي عباس البصري

      اخ نويهض كان من الواجب لو سمحت وتكرمت شرح ولو بايجاز شديد الفلسفات الاوربيه مثل الميكيافيليه والماركسا ولهيغليينيه و واثرهاما في التغيير البرطاني والفرنسي وأثرهاما حتى على القرن العشرين . انت تكتب الى اناس لم تقرأ تقريبا الا القليل عن الثقافه الغربيه وشكرا جزيلا

    • زائر 1 | 1:47 ص

      الماركسية

      الماركسية فشلت في تحقيق العدالة الإجتماعية .

اقرأ ايضاً