تناولنا في حديث الجمعة الماضية ثلاثة من أسس الحوار الهادف:
- أن نحاور الآخر بقلب مفتوح.
- ألا نتهم دوافع الآخر.
- ألا نلغي الآخر...
نتابع الحديث عن هذه الأسس...
الأساس الرابع:
أن نتحرر من المؤثرات الضاغطة على الحوار:
توجد عدة مؤثرات تضغط على الحوار لتفرغه من الموضوعية والهادفية.
من هذه المؤثرات:
(1) المخزونات اللاشعورية:
المخزون اللاشعوري يتشكل نتيجة أنماط التربية التي تغذي الإنسان بالقيم والمفاهيم والتوجيهات، فإن كانت التربية صالحة تكوّن في داخل الإنسان مخزوناً لا شعورياً نظيفاً، وإن كانت التربية فاسدة تكوّن المخزون الفاسد... وعلى كل حال فإن هذا المخزون اللاشعوري في مضمونه الملوث كثيراً ما يحول دون الانفتاح على الحقيقة، ويضغط على الفكر والعاطفة والسلوك، ما يفقد الحوار قدرته على تحقيق أهدافه، وعلى رغم أن المؤثرات اللاشعورية تمارس دورها بشكل لا إرادي، وغير خاضع لسيطرة الإنسان، فإنه بالإمكان التحرر من هيمنة هذه المؤثرات من خلال ترويض النفس باستمرار على حالات التجرد والموضوعية والإنصاف، وإعطاء العقل فرصة كافية لتوجيه العواطف المأسورة للضغوط اللاشعورية.
(2) الموروثات الفكرية والتاريخية:
قد يصعب على الكثيرين التجرد من الموروثات الفكرية والتاريخية، كون هذه الموروثات أصبحت جزءاً من كينونة الإنسان.
قال تعالى وهو يتحدث عن المشركين: «وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أوَلوَ كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون» (104 المائدة). وقال تعالى: «وإذا قيل لهم اتَّبِعُوا ما أَنزل الله قالوا بل نتَّبعُ ما وجدنا عليه آباءَنا» (21: لقمان). وقال تعالى: «بل قالوا إنّا وجدنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنّا على آثارِهم مهتدون»(22: الزخرف) .
هؤلاء أصبحت لديهم موروثات الآباء والأجداد موروثات مقدّسة غير قابلة للمناقشة، مهما كانت طبيعة هذه الموروثات، ومهما كان الآباء والأجداد في خط الجهل والضلال... وبمقدار ما يكون هؤلاء مأسورين لتلك الموروثات فإنهم يرفضون بشدة أيّ حوار يحاول أن يقارب موروثات الآباء والأجداد، أو يلامس ما فيها من خلل وزيف وفساد، أو يناقش أخطاءها وانحرافاتها، فمن الضروري لكي يكون الحوار هادفاً ومنتجاً أن يتحرر من ضغط الموروثات الفكرية والتاريخية...
قد يقال: ليست هذه الموروثات دائماً خاطئة وفاسدة ومنحرفة... فربما شكًلت تراثاً غنياً بالخير والعطاء والقيم النظيفة، ومفاهيم الهدى والصلاح...
هذا الكلام صحيح تماماً... إلا أن منهج الحوار الموضوعي يفرض على الإنسان «التجرد» ولا يعني ذلك التنازل عن «القناعات الصحيحة»، إن هذا التجرد هو الذي يفتح الطريق لهذه القناعات لكي تصل إلى قلوب الآخرين وإلى عقولهم... وحتى لو كنت تملك الحقيقة كلّ الحقيقة فحينما تحاور الآخر كن متجرداً لتدفع الآخر الذي تحاوره إلى التجرد؛ ما يعطيه الفرصة لينفتح على الحقيقة، إذا حاورت الآخر بروح «التعصب» فإنك بهذا تدفع الآخر إلى مزيد من التعصب، وبهذا تدفعه إلى مزيد من الانغلاق، ومزيد من الابتعاد عن الحقيقة...
(3) الأجواء الضاغطة:
تشكّل الأجواء المتحركة حول الإنسان (قوة ضغط) تؤثر في وعيه وفي نفسيته وفي مواقفه...
ونعني بهذه الأجواء:
- الأجواء الثقافية.
- الأجواء الاجتماعية.
- الأجواء السياسية.
- الأجواء الإعلامية.
وربما تُكوِّن هذه الأجواء «عقلاً جمعياً» يفقد من خلاله الإنسان «عقله الخاص»، فما لم يتحرر الإنسان من ضغط هذ الأجواء فإنه لن يتمكن من أن يفكر بموضوعية وهدوء وأن يحاور بتجرد...
يحدثنا القرآن وهو يوجّه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إلى أسلوب الخطاب مع الكفار والمشركين: «قُلْ إنّما أعِظُكُمْ بواحدة أن تَقُومُوا للّه مَثنَى وفُرادَى، ثُمّ تَتفكَّرُوا ما بصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لكم بين يَدَيْ عذاب شديد». (سبأ: 46).
«قل» لهؤلاء الذين أثاروا الضجيج والصخب حولك، وقالوا عنك «مجنون»، فكلّما خاطبتهم بكلمة الهدى حرّكُوا «الغوغاء» ليهتفوا إنّك مجنون... بهذه الطريقة لن تستطيع كلمة الهدى أن تصل إلى قلوبهم وإلى عقولهم، لأنّ هذه القلوب محكومة لهذا الضجيج الأعمى، ولأنَّ هذه العقول مأسورة لهذا العناد الأحمق...
«قل» يا محمد لهؤلاء «إنّما أعظكم بواحدة» اسمعوا مني فقط كلمة واحدة، هذه الكلمة هي التي تحدّد لكم «المنهج في التفكير».
ما هي هذه الكلمة التي تحدد لهم المنهج في التفكير؟
«أن تقوموا للّه مَثْنَى وفُرادى»، انفصلوا عن هذه الأجواء المحمومة الضاغطة على عقولكم وعواطفكم ومواقفكم، انفصلوا عن هذا الضجيج الذي لا يسمح لكم أن تفكّروا بهدوء ورويّة... ليجلس كل واحد منكم مع نفسه بعيداً عن الأجواء المحمومة وبعيداً عن الضجيج الذي يهيمن على أجواء السَّاحة ويتأمل ويفكر فيما أقول...
أو ليجلس كل واحد منكم مع صاحبه في جلسات ثنائية تمنح العقل حرية التفكير الهادئ... إنّكم إنْ جلستم هذه الجلسات الفردية والثنائية وتفكرتم وتأملتم فسيقودكم إلى نتيجة واضحة وهي انّ حديثي ليس فيه شيء من الجنون، إنه الحديث الهادي إلى الله تعالى، وإنه الحديث الذي يضعكم في طريق الهدى والرشاد، وإنه الحديث الذي ينقذكم من عذاب الله «ثُمَّ تتفكروا ما بصاحبكم من جِنّة إنْ هو إلاَّ نذير لكم بين يَدَيْ عذاب شديد».
إنَّ الأجواء الاجتماعية والسّياسية والإعلامية في واقعنا المعاصر تلعب دوراً كبيراً في الضغط على عقول الناس وعلى مشاعرهم، وعلى مواقفهم فكم تأثرت شعوبٌ بكاملها من خلال خطاب السّياسة المضلل، ومن خلال خطاب الإعلام المضلل، فلم تعد هذه الشعوب قادرة على أن تفكر بنزاهة، ولم تعد قادرة على أن تتحرك ببصيرة، ولم تعد قادرة على أن تحاور بموضوعية... هكذا تشوّش هذه الأجواء حرية التفكير، وحرية التحرك، وحرية الحوار... من خلال هذه الأجواء الضاغطة تأتي الحوارات، وتأتي الرؤى والتصورات، بعيدة كلَّ البعد عن الموضوعية والنزاهة والتجرد...
وحين يقع الناس تحت تأثير هذه الأجواء «يتبلّد» فهمهم للأمور، وحينما يقرأون ويسمعون يمارسون ذلك بطريقة مشوشة، وحينما يقيّمون تأسرهم عقد صعبة...
أضرب لكم مثلاً: لو تعبأ أحدكم «فكرياً أو نفسياً» تجاه إنسان ما بحيث أصبح يعيش عقدة صعبة تجاهه فحينما يسمع حديثاً لذلك الإنسان فسيسمعه من خلال العقدة النفسية، وحينما يقرأ له، فسيقرأ من خلال تلك العقدة... بينما لو قرأت أو سمعت وأنت خال من أيّ عقدة فسيتغيّر الموقف تماماً...
مشكلة الكثيرين أنهم مأسورون لمجموعة مؤثرات ضاغطة حينما يحاورون وحينما يقيّمون... وإن كانوا يوهمون أنفسهم والآخرين أنهم ينطلقون من دوافع مبدئية مجردة، وأنهم يدافعون عن الحقيقة، في حين يعبّرون عن العقد المتحكمة في داخلهم...
كم نقرأ كتابات في الصحف معبئة ضد «الرموز الدينية» وضد «الدعاة إلى الإسلام»، هذه الكتابات مغلّفة بعناوين كبيرة، إلا أنها تقطر سوءاً وحقداً وعداوة واضحة، وتعبّر عن عقد مدفونة يصعب التكتم عليها، ويصعب إخفاؤها، مهما حاول أصحابها أن يفتعلوا النزاهة والصدق والموضوعية كغلافات كاذبة... وكم تجنت هذه الكتابات على الحقيقة، وكم أربكت الرؤية، وكم شوشت الصورة، وبالتالي كان لها تأثيرها الكبير على كلّ حوار جاد وهادف بما تفرضه من ضغوطات فكرية ونفسية على أجواء التفاهم...
الأساس الخامس:
تأكيد نقاط الاتفاق أولاً: حينما نقرأ قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَوَاء بيننا وبينكم ألاّ نعبُدَ إلاّ اللّه ولا نُشرِكَ به شيئاً ولا يَتَّخِذَ بعضُنَا بعضاً أرْبَاباً مِن دُونِ اللّه فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون» (64: آل عمران).
نفهم بوضوح «المنهج القرآني في الحوار» الذي يؤكد ضرورة التفتيش عن «القاعدة المشتركة» لتشكّل منطلقاً للحوار، ولاشك أنّ هذا المنهج له معطياته المهمة:
- يخفّف الكثير من التشنجات بين المتحاورين...
- يفتح العقول والقلوب...
- يزيل كلّ التعقيدات التي تواجه الحوار...
فحينما نريد أن نحرّك الحوارات (الفكرية/ العقائدية/ المذهبية/ السّياسية/ الاجتماعية) يجب أن نفتش (أولاً) عن الأرض المشتركة ثم نتحاور فيما نختلف فيه...
- فحينما يكون الحوار «إسلامياً - علمانياً» فهناك القيم الإنسانية والفطرية والوطنية تمثل أرضاً مشتركة...
- وحينما يكون الحوار «إسلامياً - مسيحياً» فهناك الإيمان بالله وبالأنبياء والمعاد يمثل أرضاً مشتركة...
- وحينما يكون الحوار «شيعياً - سنيّاً» فهناك الأصول الإسلامية العامة، والأساسيات الدينية تمثل أرضاً مشتركة...
- وحينما يكون الحوار «شيعياً - شيعياً» أو «سنياً - سنياً» فهناك الأسس المذهبية الكبيرة التي تمثل أرضاً مشتركة...
- وهكذا بالنسبة إلى الحوارات الثقافية والسّياسية والاجتماعية...
من المؤسف أنّ الحوارات المتحركة في واقعنا تحاول دائماً أن تحرق الأرض المشتركة، وتحاول دائماً أن تنسف القواسم الموحّدة...
هذا المنهج خاطئ جداً ويعبّر عن:
أ - غياب الوعي القرآني بأساليب الحوار...
ب - الانغلاق والتعصب والتطرف تجاه الآخر...
ج - هيمنة الدوافع الذاتية...
هنا قد يثار إشكال: أليس من «الأساسيات الإيمانية» أن يكون الإنسان المؤمن «مبدئياً» و«جدّياً» في مواقفه. لا يتنازل، ولا يساوم، كما أكّد ذلك القرآن في كثير من الآيات؟
والجواب - وبحسب ما ذكرنا في حديث سابق - أنّ هناك حالتين:
- حالة المواجهة والتحدّي والصراع، وهي تفرض «الحدّية والصرامة والمفاصلة».
- حالة الحوار والدعوة والتبليغ، وهي تفرض «المرونة والانفتاح والبحث عن نقاط الاتفاق».
ولا تعني «المرونة والانفتاح» التنازل والمساومة، وإنما هو «الأسلوب الحكيم» في الدعوة والحوار...
الأساس السادس:
أخلاقية الحوار:
المنهج القرآني يؤكد «أخلاقية الحوار»...
وفي هذا السياق يتناول منهج القرآن مسألتين:
المسألة الأولى - لغة الحوار:
ومن الشروط الأساسية في لغة الحوار - حسب المنهج القرآني -:
(1) أن تكون لغة الحوار نظيفة: فلا يجوز أن يعتمد الحوار لغة السب والشتم والألفاظ البذيئة...
قال الله تعالى: «ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبُّوا اللّهَ عَدْوًا بغير علم»(108: الأنعام).
روي أن أمير المؤمنين (ع) سمع جماعة من أهل العراق يسبّون أهل الشام فوقف فيهم خطيباً، وقال لهم: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّبابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكانَ سبّكم إياهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءَهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به».
إنّ لغة السب والشتم تعبّر عن عجز وإفلاس، كما أنها تساهم في تأجيج الخلافات وتشنيج العلاقات، وبالتالي تضيع الفرصة في الانفتاح على الحقيقة...
وقد أكّد القرآن أن تكون المجادلة مع الآخر بالتي هي أحسن:
- «وجادلهم بالتي هي أحسن» (125: النحل) .
- «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن» (46: العنكبوت).
- «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم»(34: فصلت).
(2) أن تكون لغة الحوار لغة ليّنة:
من خلال «اللغة اللينة» تنفتح القلوب والعقول، وتهدأ التوترات والتشنجات، وتتوافر الأجواء الهادئة لمعالجة الأفكار والرؤى والتصورات، وإيصال القناعات...
- «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك».
- «اذهبا إلى فرعون إنّه طغى. فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكر أو يخشى» (43 -44: طه).
المسألة الثانية - أدب الاختلاف:
ربّما قاد الحوار إلى «قناعات موّحدة» أو إلى درجة كبيرة من «الاتفاق» أو إلى قدر محدود من «التفاهم»...
وربّما عجز الحوار عن أن يحقق شيئاً من ذلك، وهنا يجب على الأطراف أن يلتزموا «أدب الاختلاف»، فإذا عجزنا عن أن نتفق فيجب أن نتعلم كيف نختلف... ومن أدب الاختلاف، احترام الآخر، ومن أدب الاختلاف عدم الإساءة إلى الآخر، عدم التشهير به، والعمل لإسقاطه...
وهذا لا يعني ألا أرفض الفكر الآخر الخطأ، والفكر الآخر المنحرف، والفكر الآخر الفاسد، والفكر الآخر المعادي للدين والقيم، والفكر الآخر المحارب للإسلام... ليس تشهيراً وإسقاطاً ذاتيّاً أن نمارس تعرية الأفكار والنظريات التي تشكّل خطراً على الدين، والأمة، والمجتمع، والإنسان...
من حق الآخر أن نحاوره بنزاهة وموضوعية ومرونة وشفافية...
ومن حق الآخر ألا نسقط أشخاصه ورموزه لمجرد الاختلاف...
ولكن ليس من حق الآخر أن يطالبنا بالصمت في مواجهة الأفكار الخاطئة والفاسدة والمنحرفة والضالّة متى تأكد لنا ذلك بشكل قاطع... قد تبدأ المواجهة بالحوار الهادئ المنفتح، ولكنها قد تنتهي بالرفض والتصدّي والمفاصلة... وهذا أمر طبيعي وفق القناعات المحكومة للبحث العلمي النزيه...
وكذلك ليس من حق الآخر أن يفرض علينا الصمت عن إعلان الانتماء والدعوة إلى أفكارنا ومبادئنا وقيمنا...
- قال تعالى: «فإن تولوّا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون» (64: آل عمران).
- وقال تعالى: «ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، وعمل صالحاً، وقال إنّني من المسلمين...» (33: فصلت)
إقرأ أيضا لـ "السيد عبدالله الغريفي"العدد 847 - الخميس 30 ديسمبر 2004م الموافق 18 ذي القعدة 1425هـ