نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» العام 2004 صوراً مثيرة جداً ومقسمة على موضوعات رئيسية عدة منها العراق طبعاً والانتخابات والحوادث العالمية والرياضة وغيرها؛ صحيفة «الحياة» هي الأخرى نشرت في عددها ليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري نموذجها من صور العام الماضي؛ مجلات وصحف أخرى نشرت صوراً أخرى من وجهة نظرها هي التي تمثل المآسي التي حلت بالإنسانية للعام نفسه. جميع هذه الصور هي بحق مرعبة في كل مكان، مرعبة في العراق إذ الموت هو الخبز اليومي الذي يعيش عليه العراقيون والأميركان ومن هم في خضم تلك المعمعة من «إرهابيين» مدججين بالسلاح المرئي والمخفي، ومن حذا حذوهم من عنصريين وطائفيين ومرتزقة ومتكالبين. صور ليس فيها سوى الدماء والأشلاء: دماء أطفال وأشلاء نساء ورجال وشيوخ وعجائز، أشلاء تارة تراها طائرة نحو السماء وتارة في الطرقات مرمية تسبح في دمائها تبكي عليها أحبتها؛ وتارة تراها في الحفر لا يبكيها سوى الذباب وجيوش الحشرات؛ وتارة تراها ملفوفة براية بلدها تتجه نحو طائرة تقلها إلى مسقط رأسها؛ وتارة تراها في حوامة مسجاة تنتظر ساعة الإقلاع لا إلى السماء بل إلى مكان آخر ينقلها إلى مثواها الأخير؛ أو تارة محمولة على الأعناق تذرف من خلفها الدموع وتتعالى من حولها الصرخات والصيحات المدوية: صرخات وصياح الأبناء والزوجات والأمهات وأبناء العمومة والعشيرة وربما رفاق الحزب أو الحي يأخذونها إلى مثواها الأخير.
صور أخرى: الزلازل تفعل فعلها وتظهر طبيعتها العدوانية التي لم يستطع الإنسان حتى اليوم القضاء عليها، تعلن عن الخراب الذي يطول كل شيء، صور الجثث تنتشل من بين الأنقاض والكلاب تجوب الركام بحثاً عن أحياء شاء القدر أن يبقيهم أحياء كي يحكوا لنا ولمن سيأتي بعدنا حكاية الصراع مع القدر ورؤية الموت المحقق بالعين المجردة والبصيرة النافذة. صور آخر زلزال يصيب آسيا من إندونيسيا إلى الهند يأخذ معه عدداً كبيراً من البشر، ما يقارب من مئة ألف إنسان. هناك طبعاً خسائر أخرى منها خسائر حيوانية من مواش وخلافه، إلى خسائر مادية من مبانٍ إلى سيارات وما شابه. يعجب المرء أين كانت أجهزة الرصد لتلك الدول والدول التي غزت الفضاء واستعمرت القمر معبود العشاق. وأين احتياطات هذه الدول التي من الواجب اتخاذها لتفادي كل هذه الخسائر. لابد أن في الأمر سراً.
صور أخرى في فلسطين إذ الموت لم يأخذ قسطاً من الراحة على مدى أكثر من خمسين عاماً، فهو لم يبارح تلك الديار منذ الأربعينات من القرن الماضي، أشلاء في كل مكان ودماء في كل مكان ولا سلام يلوح في الأفق مادام الاحتلال ومادامت أفكاره وأهدافه هي القوت اليومي للمحتل، أو لأكن أكثر صدقاً للمحتل! هناك طبعاً الجدار العلامة المميزة للعنصرية البشعة. هناك صور اغتيال الشيخ ياسين.
صور دارفور وصور الجوع والتشرد والعيش مع قطعان الماشية التي تتغذى وتسمن أكثر وأفضل من الإنسان هي الأخرى منشورة وتثير الفزع فيمن يمتلك في نفسه شيئاً من الإحساس ليتساءل وبشكل علني مسموع: هل هناك أمل لخلق إنسانية أكثر رحمة وعدلاً في زمن تفقد العدالة صدقيتها ومِن مَن لا أخفي عليكم سراً من حماتها.
صور أخرى لرؤساء ماتوا موتاً طبيعياً منهم طبعاً الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، مسجى في باحة مكتبته في كاليفورنيا. المناضل الفلسطيني ياسر عرفات وقد غيبه الموت قبل أن يحقق حلمه برؤية دولة فلسطينية تجمع شعبه وتوفر له ما يحلم به جميع سكان وشعوب الأرض. رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان؛ هناك طبعاً صور الزعيم المسلوب الإرادة والقوة ذلك الجبار يوماً ما صدام حسين، وهو يقدّم للمحاكمة ليقدم هو بذاته صوراً لكل زعماء العالم: إن هذا مصيركم إن أنتم أسأتم إلى شعوبكم، وإن أنتم ضيعتم بعبثكم الصبياني مستقبل بلادكم، وليقدم أيضاً صورة من أكثر صورنا العربية حضارة وهي أن في العراق صانع الحضارة بلد غلغامش وحمورابي، هناك أناس أكثر عقلانية من أية قوة في العالم، إذ يقدمون أكثر الزعماء الطغاة إلى المحاكمة ليدافع عن مبادئه - أياً كان مستوى صدقيتها - التي حارب ونازع من أجلها العالم وأشقاءه، لا إلى حبل المشنقة من دون أن يقول كلمته الأخيرة حقاً كانت أم باطلاً، ليعري كل ما تبقى من مستور.
صور أخرى لرؤساء فازوا بانتخابات الرئاسة في بلادهم بتسعة وتسعين وتسعة من عشرة في المئة!
صور تفجيرات كثيرة، ولكن أكثرها شهرة صور وتفجيرات المملكة العربية السعودية عموماً، وتفجيرات الرياض خصوصاً.
ليست «نيويورك تايمز» هي وحدها الوسيلة الإعلامية التي تنشر صور الرعب الذي خيم على العالم ومازال في ساعاته الأخيرة للعام 2004 بل هناك سيل من وسائل الإعلام تنشر هذه الصور وصور أكثر رعباً لا يصلنا منها شيء على الإطلاق لكونها ليست بمستوى الأهمية، بسبب أنه ليس بها أية مصالح اقتصادية لأي من دول الاقتصاد الحر.
ذاهبون إلى الهاوية
بعد أن يخوض الإنسان تجربة رؤية هذه الصور لابد أن يتساءل مع نفسه أو مع الآخرين وبصوت مسموع: هل هناك ثمة أمل؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
الحقيقة المرة هي أننا ذاهبون إلى الهاوية وهذه ليست نظرة تشاؤمية، بل وللأسف هي الواقع المر الذي صرخ كثير من محبي الأمة: «يكفينا نوماً»، لاستنهاضها من سباتها العميق، لكن لا حياة لمن تنادي. في العراق الوضع يسير من سيئ إلى أسوأ، يقول توماس فريدمان في آخر مقال له للعام 2004 إن وزير الخارجية الأميركي المستقيل كولن باول قال للرئيس جورج بوش الابن: انه «ليست لأميركا قوات بما يكفي في العراق وإنهم لا يستطيعون السيطرة على الوضع هناك». وواجه وزير الدفاع رامسفيلد من قبل جنوده بالقول إنه: «ليس لديهم ما يكفي من عتاد لمواجهة الحوادث الدائرة هناك». النتيجة المتوقعة إذاً هي مزيد من الدماء والدمار.
في فلسطين حدث ولا حرج. في دارفور لا أمل هناك حتى في سد رمق جوع الأطفال والنساء. في مناطق أخرى من العالم العربي يأتيها التهديد والوعيد من الخارج ويضعها في موقف صعب للغاية. الوضع الداخلي لأكثر الدول العربية متأزم جداً ويحتاج إلى عمليات لا إلى عملية واحدة وبسرعة جداً على جميع المستويات وربما أكثرها إلحاحاً على مستوى التعليم، إذ تتسابق الأمم اليوم للتميز في هذا المجال لكي يبقى لها التصدر اقتصاداً وثقافياً في السنوات المقبلة. وإذا لم تصدقوا اقرأوا ماذا يقول المفكرون الأميركيون عن الوضع التعليمي في أميركا حيث أمهات الجامعات وحيث خيرة العقول.
إننا وإن اختلفنا مع الصحافي القدير توماس فريدمان، فإننا يمكننا أن نرى «وجه الشر» هنا في أوطاننا العربية، وهو وجه بشع جداً ناتج عن جهالة وحماقة، ترعرع وكبر على مستوى الجهالة والحماقة نفسها التي نتج عنها ولا يمكننا أن نغير «وجه الشر» هذا إلى «وجه الخير»، ليس لنا فحسب بل إلى كل إنسان إلا إذا منعنا وصول «مهندسي الموت» (هذا العنوان مقتبس من كتاب ستيفن مرايت: «الدكتاتوريون: مهندسو الموت)» من أمثال كثيرين نرجو أن تنتبه إلى وجودهم أميركا وتعمل المستحيل حتى ترميهم في مزابل التاريخ وما أكثرها وستجد متسعاً هناك لهم من دون أدنى جهد
العدد 847 - الخميس 30 ديسمبر 2004م الموافق 18 ذي القعدة 1425هـ