غلبني النعاس ذات يوم ... حلمت به مصلوباً على قوس من الغيوم ... يتساقط منه زغب الطيور التي وجدت في جمجمته مكاناً رحباً لبناء عش... كان يلوِّح بيديه لكائنات تتناسل كالطيوف وهو يهذي بالحلاج.
لا تستخفنّ بالجائع فقد يأكل جلده النتن وأظافره المتسخة دون أن ينحني لالتقاط ثمرة ميتة !. ثم إلى من تُسجّر هذه النار ؟ للغريب الذي يشبه بكاءنا السري ... أم لواهبة هذه الحقول كل بذخها وترفها العريق ؟ ... أسندْني إلى إحدى غيومك ... أكاد أنز كل هذا الإرث المعلق على مصهر الكون !.
وفي النعاس أتحسس اليقظة كضرير حدقته عصاه يهش بها على قطيع الظلمة ... سينأى كعادته ... وسأظل أعمِّده باللعنات ريثما يأتي حاملا سلال الخيبة وهو يفحُّ جوعا ويومض تعبا .
إلى من تكلني في هذا الليل الطالع من سحنتك ؟ إلى من تكل أمك وقد أسرفت في سرقة الأحذية من الجوامع لتؤمّن وجبة عشاء عابر؟ ... نعم أمك تأكل أحذية من حرام ! ... أما أنا فما زلت أتسلى بندوب الملح التي خلفتها الرطوبة على الجدران المتهالكة ... دعني أبكي قليلا قبل أن أحدّثك عن أطفالك ... ها هم يسرحون مع مطلع كل شمس لبيع كوبونات لصالح جمعية المعوقين ليعودوا وقد أنهكهم الجري وراء المارّة ببطون طاوية .
بحق خصلات هذا الشعر الذي طوّقتك به أول ليلة ... ضبطتني تلك الجارة المتعجرفة وأنا متلبسة بسرقة نفايتها الفاخرة ... أكوام من اللحم وأرغفة بكر ... ومقبلات تكفي سريّة من الجند ... قادتني إلى المخفر وقد تعلق بي أطفالك ... وهناك سال لعاب أحدهم حين رأى شكل طائر رابض على كتف الضابط المناوب ... ظل يجوب أرجاء المكان بحثا عن الرائحة ... حالماً بوجبة كنتاكي !.
- ما الذي دفعك لسرقة النفاية ؟
- كي لا يتحول هؤلاء إلى نفاية ... ( وأشارت لأطفالها ).
والجارة ذاتها ..
- أقسم بميمي انها كانت تنوي إحراجي أمام نفايات الآخرين!.
أقسم بميمي انني كنت أدع الأبواب والنوافذ مشرعة كي تصلهم رائحة الشواء والفطائر الفرنسية!.
أقسم بميمي انني تغاضيت عنها ذات ليلة وقد لمحتها تقضم حذائي البالي الذي ابتعته قبل أسبوع!.
أقسم بميـ ....
ـ ومن ميمي تلك ؟؟.
ـ كلبتي السويدية ... أقمت لها حفل استقبال حضره أعيان البلد!.
وما زال طفلكَ يحدِّق في الطائر الرابض على كتف الضابط المناوب حالما بوجبة كنتاكي!!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 847 - الخميس 30 ديسمبر 2004م الموافق 18 ذي القعدة 1425هـ