العدد 846 - الأربعاء 29 ديسمبر 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1425هـ

المفاوضات السورية - الإسرائيلية تسير بسرعة التفاح

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

طيرت وكالات الأنباء العالمية خبراً قبل أيام من القدس المحتلة عن سماح وزير الدفاع الاسرائيلي شاؤل موفاز ببيع 15 ألف طن تفاح من إنتاج الجولان السوري المحتل إلى سورية، وهي المرة الأولى التي تسمح فيها «إسرائيل» بمثل هذه العملية التجارية بين الأراضي السورية المحتلة ودمشق. ان ما يحمله هذا الخبر في طياته من دلالات سياسية لا يقف عند حدود مسألة بيع التفاح، ولا يمكن فصله عن الحركة السياسية على المسار السوري - الاسرائيلي، لأن التفاح المباع يعني اتصالاً بين المؤسسات المعنية في كل من سورية و«اسرائيل» من أجل تسهيل الصفقة التجارية، وهذا يعني أمرين لا ثالث لهما، الأول هو: ان هذه الصفقة بداية لتمهيد الأجواء لتطبيع في العلاقة بين أهالي الجولان المحتل وسورية، ولاسيما بعد الزيارة التي قامت بها شخصيات دينية واجتماعية إلى سورية من سكان الجولان المحتل قبل أسابيع عدة، وكانت المرة الأولى التي يسمح فيها لوفود من الجولان بزيارة سورية بعد توقف المفاوضات على المسار السوري - الإسرائيلي عقب قمة جنيف بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس بيل كلينتون العام 2000 وبعد الحديث مجدداً عن إمكان العودة إلى المفاوضات بين «اسرائيل» وسورية من دون شروط مسبقة. وهي العملية التجارية التي يسمح بها وزير الدفاع الاسرائيلي بعد ان أعلنت «اسرائيل» ضم الجولان العام 1981 اليها، أي وبحسب وجهة النظر الإسرائيلية أن الجولان تخضع للقوانين الإسرائيلية في التعاملات كافة مع الداخل والخارج ولا سلطة لوزارة الدفاع على المسائل التجارية في هذا الشأن، وبالتالي يعني أن الذي يسمح ببيع المنتجات في الجولان هو وزارة التجارة الإسرائيلية وليس وزارة الدفاع، لأن الجولان في العرف الإسرائيلي، لم يعد منطقة محتلة انما هو منطقة إسرائيلية بموجب قانون الضم الصادر عن الكنيست. ولهذا فإن سماح وزير الدفاع بهذه العملية التجارية يعني إشارة ضمنية من «إسرائيل» إلى سورية بأن «إسرائيل» لم تتعاطَ مع الجولان باعتبارها منطقة إسرائيلية انما منطقة سورية محتلة، وهو ما يعني تالياً الإشارة إلى أن مسألة التفاوض السوري - الإسرائيلي دخلت المرحلة التقنية (هذا اذا صدقت التقارير الإسرائيلية عن المفاوضات السرية بين البلدين) الأمر الواقع على سورية من خلال التعامل غير المباشر (تجارياً) بين الجولان وسورية كمقدمة لفتح الاسواق بين البلدين وان عبر وسيط، ما يؤدي إلى جعل التجارة بوابة سياسية للمفاوضات بين البلدين، ذلك لأن التبادل الجاري هذا يعني تبادلاً مصرفياً واتصالات غير مباشرة بين سورية و«إسرائيل»، وهذا الامر لا يبقى داخل الدائرة التجارية دائماً.

مهما يكن من أمر دبلوماسية التفاح هذه التي بدأت بين سورية و«إسرائيل» فإن التطورات التي تشهدها المنطقة منذ أكثر من عامين فرضت واقعاً جديداً على دول المنطقة كافة، وبات على هذه الدول التعامل مع الحوادث بذهنية جديدة مغايرة تماماً للذهنية السابقة، وأقل ما يقال فيها انها ذهنية البحث عن الطريق الأمثل لتقديم تنازلات من الجميع لا تأثير لها على طبيعة الأنظمة القائمة، لأن أية تنازلات لا تنسجم مع الآمال التي علقتها الشعوب على الأنظمة، أو التي سوقتها الأنظمة على أنها آمال وخيارات استراتيجية، ستكون بداية لانهيارات لا يمكن التكهن بما ستنتهي إليه، ذلك لأن المعزوفة القديمة عن الانتصار من خلال بقاء الأنظمة بعد كل أزمة كبرى لم تعد تجدي نفعاً.

من الواضح تماماً ان خيارات الحرب الشاملة على الجبهات العربية مع «إسرائيل» باتت من الماضي، وذلك طبقاً لطبيعة الحركة السياسية الجارية في المنطقة منذ العام 1982 عندما غزت القوات الإسرائيلية لبنان ووصلت إلى بيروت وعجزت الدول العربية مجتمعة آنذاك عن لجم الوحش الإسرائيلي أو ايقافه قبل الوصول إلى العاصمة العربية الثانية بعد احتلال القدس. فمنذ ذلك الحين بدأت ترسم خريطة انهاء النزاع العربي - الإسرائيلي جدياً، وبات النموذج المصري المتحقق في «كامب دايفيد» هو الوسيلة الفضلى لإنهاء الصراع، أي عبر تفكيك الترابط بين الدول العربية وجعل التسوية الجزئية السبيل الوحيد في هذا السياق، إلا ان سورية كانت المتضرر الوحيد من هذا الامر لأن «اسرائيل» أعلنت ضم الجولان في العام 1981، أي في أوج التفاوض المصري الإسرائيلي آنذاك. ولهذا وجدت سورية نفسها وحيدة في مواجهة من نوع آخر مع تل ابيب، هي ان الأرض التي تطالب بها أعلنت من قبل الكنيست الإسرائيلي أرضاً إسرائيلية، وان الشريك العربي الكبير خرج من المواجهة والشركاء العرب الآخرون ليسوا معنيين كثيراً بموضوع الجولان طالما ان القضية المركزية (فلسطين) لم يتحقق اي شيء بالنسبة إليها. ولذلك جعل الانفراد المصري آنذاك التصلب الإسرائيلي أمراً واقعاً، ولذلك رأينا ان «إسرائيل» عطلت المسألة الفلسطينية ولم تقدم أي شيء بالنسبة إلى الموضوع السوري، وسارت الامور بشكلها العادي على المسار المصري الى ان انتهت بتوقيع اتفاق صلح بين الطرفين تحول لاحقاً إلى اتفاق سلام وتبادل دبلوماسي.

ان التطور الذي حدث أخيراً بين دمشق وتل ابيب لابد ان تتبعه تطورات أخرى على أكثر من صعيد، ولاسيما ان دمشق الآن معنية بتقديم شيء ما فيما يتعلق بالعراق حتى لا تخسر كثيراً في لبنان الذي تعتبره الورقة الأكثر أهمية على المستوى الإقليمي. كما ان «إسرائيل» معنية الآن وأكثر من أي وقت مضى بالخروج من المأزق الذي أوصلت نفسها إليه خلال السنوات الأربع الماضية، ولاسيما ان الكلفة التي تدفعها في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية باتت عالية جداً. وبات من الضروري ان تخرج من أزمتها السياسية والاقتصادية عبر تقديم تنازلات في الموضوع الفلسطيني، أو في الموضوع السوري، ومن هنا تكون الإشارة الإسرائيلية الآتية من بساتين التفاح في الجولان كبيرة جداً، وهي بداية لإشارات متبادلة بين الطرفين كالاستجابة السورية مثلاً للمطلب الإسرائيلي لإعادة رفات الجاسوس الإسرائيلي ايلي كوهين تحت عنوان «حل الموضوع الإنساني وانتهاء المعنى الرمزي للاحتفاظ بالرفات»، رداً على تسهيل بيع المنتج الجولاني من التفاح «الفائض» على ان تقابلها إشارات إسرائيلية من نوع آخر حتى تصل الأمور إلى الجلوس علناً إلى طاولة المفاوضات وانهاء العالق من الأمور بين الطرفين. ومن هنا لن تلتزم «إسرائيل» بما قاله الرئيس الأميركي جورج بوش بشأن انتظار سورية انتهاء الفلسطينيين والإسرائيليين من التوصل إلى سلام بينهما، ومن ثم تبدأ المفاوضات على المسار السوري - الإسرائيلي، لأن الحسابات الإسرائيلية ليست متطابقة دائما مع الحسابات الاميركية، ولاسيما في المسار السوري، لأن العملية الحسابية العراقية الآن أكثر إغراء للجميع من عمليات حسابية أخرى. فـ «إسرائيل» يهمها النفط العراقي الآن أكثر من الجرود السورية، وإذا ما حققت تقدماً على المسار السوري تستطيع ان تسرع من حركتها على خط العراق لأن تحسين الوضع بين دمشق وتل أبيب يعني عدم المماحكة السورية للاسرائيليين في بغداد.

من الواضح تماماً ان النصيحة الطبية بتناول تفاحة كل صباح تبعد الطبيب آتت أكلها في السياسة، إذ فشلت كل النصائح التي أسديت إلى كل أطراف الصراع في الشرق الأوسط، إذ ان الفاتورة العسكرية التي تدفع سنوياً أصبحت باهظة جداً إلى درجة أن الجميع يريد ان يبيع بضاعته حتى وان كان بسعر الكلفة، فتعطيل التنمية لا يرحم وربط مصائر الشعوب بحروب مؤجلة إلى الأبد لن يشتري رغيفاً لجائع!

بالمناسبة ان تفاح الجولان حساس جداً إلى درجة انه يتأثر بأي شيء ولذلك لا يحتمل الانتظار كثيراً لأنه يفقد قيمته الغذائية بسرعة

العدد 846 - الأربعاء 29 ديسمبر 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً