العدد 846 - الأربعاء 29 ديسمبر 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1425هـ

مناسبات للوطن... كل الوطن!

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

عشرون سنة مرت منذ تركنا مقاعد الدراسة في القاهرة، لكن ملابساتها والمواقف التي مررنا بها لاتزال ماثلة أمام العين كأنها حدثت بالأمس القريب، وقد كنت دائماً أحدث نفسي عن أهمية التوقف عند تلك الأيام التي ساهمت إلى حد بعيد في صوغ شخصيات وسلوك ومستقبل الكثير ممن تهيأت لهم الفرصة للدراسة في الخارج، وخصوصاً أن تلك الأيام شهدت حوادث جساماً ساهمت في إعادة رسم المنطقة برمتها وربما العالم بأكمله.

وأحسب أنني في هذا المقال قد أثير الكثير من الذكريات لزملاء وزميلات هم اليوم في مواقع عمل وإنتاج مختلفة يساهمون بجهودهم في بناء الوطن، لكنني أتطلع لأن تكون هذه الذكريات من النوع الذي يسهم في إعادة قراءة التجربة بهدوء بعيداً عن التوتر والتشنج بغية الاستفادة والتقييم وربما ممارسة النقد بروح بعيدة عن الانفعال.

لقد كانت القاهرة بالنسبة إلينا ورشة عمل طويلة ومتنوعة، قدمت لنا الكثير من العلم والمعرفة وأكسبتنا الكثير من المعارف والأصدقاء، لكن كثيرين ممن عادوا إلى البحرين بعد التخرج ابتعدوا عن دائرة الفعل والحراك المجتمعي وآثروا الانزواء بعيداً، وأعتقد جازماً بأن ذلك قد منح الكثيرين منهم أجواء أسرية هادئة وهانئة، وهو ما أتمناه للجميع، لكن ما يقلقني هو أن غالبية من درس في الخارج قد أغلق ملفات الذكريات ولم يسهم في فتح المفيد منها للأجيال الجديدة حتى لا تعيد التجربة نفسها وتقع في الأخطاء ذاتها.

إنني أحاول هنا الكشف عن بعض جوانب التجربة التي عايشتها، وادعو جميع الإخوة والزملاء إلى أن يعملوا على توثيق تجاربهم، أو عرض أهم المحطات التي عايشوها بحلوها ومرها، حتى تكون زاداً للأجيال الجديدة التي لم تعايشها، وحتى لا يستطيع بعض أصحاب النوايا غير الحسنة الإساءة إلى هذه التجربة ويصفونها بالنعوت والألقاب الناقصة على الدوام. وعلى رغم اتفاق الجميع على أن هناك سلبيات كثيرة شابت التجربة فإن الإيجابيات التي شهدتها أكثر من أن تحصى، وفي الحالين فإن من رأى ليس كمن سمع.

وحتى لا أسهب في المقدمة أكثر، أقول إن سنوات الغربة كانت مليئة بالحراك السياسي كما كانت متشبعة بالمناكفة بين أنصار التيارات السياسية إلى حد التقزز أحياناً، ويخيل لي بعد كل هذه السنوات من انتهاء التجربة أن بعض فصولها كانت من النوع المأسوي، بينما كانت فصول أخرى من النوع الساخر الذي يدفعنا للابتسام عندما تمر أمام أعيننا بعد كل هذه السنوات، لكن ما كان يبعث على الضحك والسخرية يكاد اليوم أن يتحول إلى تراجيديا مؤلمة عندما نراه يتكرر وبدرجة أكثر تخبطاً، وأسوق هنا مثالاً عايشه كل الطلبة الذين درسوا في الخارج في عهد الاستقلال، فلقد كانت الأجواء السياسية مشحونة، وكان الحضور السياسي في الساحة الطلابية طاغياً ويتمثل في ثلاثة تيارات أساسية هي تيار الجبهة الشعبية في البحرين، تيار جبهة التحرير الوطني البحراني، وتيار حزب البعث العربي الاشتراكي.

وإذا كان مفهوماً أن تختلف التيارات السياسية على الكثير من القضايا الرئيسية التي قد ترتبط بالفكر والمعتقدات، وربما السيطرة على المواقع القيادية في هذه المحطة أو تلك، فإن ما أجده اليوم غير مستساغ هو الصراع على المناسبات والتواريخ، وتحديداً يوم التضامن مع الشعب البحريني!

أجل، كان الاختلاف يصل إلى أشده بين أنصار تيار الشعبية وتيار التحرير على التواريخ التي يجب أن يحتفل بها الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، وكان أبرز خلاف في هذا المجال يقع بين المنادين بالاحتفال بـ 5 مارس/ آذار والمتحمسين للاحتفال بـ 7 ديسمبر/ كانون الأول. أنصار تيار الشعبية يدعون إلى اعتماد 5 مارس باعتباره اليوم الذي سقط فيه الكثير من الشهداء ابان انتفاضة 1965، بينما كان أنصار تيار التحرير يدعون إلى اعتماد 7 ديسمبر باعتباره اليوم الذي وصل فيه نواب الشعب إلى البرلمان في أول انتخابات نيابية العام 1973.

ولم يكن الأمر ليتوقف على مجرد اختلاف بسيط في التواريخ المهمة، فلقد كان أنصار كل تيار يعدون العدة للاحتفال بهذا اليوم، فيجهزون له الأناشيد والأغاني الوطنية ويقيمون الأمسيات الثقافية والسياسية والخطب الرنانة أيضاً، وكان من الغريب أن كلا الفريقين يعمد إلى ترتيب احتفالاته بمعزل عن الآخر، كما أن كلا الفريقين كان يهتم بتوجيه الدعوات للحركات السياسية والعربية وغير العربية لحضور هذه الاحتفالات الخاصة به أكثر من اهتمامه بحضور الطرف الآخر.

وأجدني اليوم أسأل نفسي: هل كان هناك مانع أن نحتفل جميعاً بالمناسبتين من دون أي تشنج أو تراشق، طالما أن الجميع كان يدعو إلى التضامن مع شعب البحرين؟ ولعل ما دفعني للكتابة عن هذه المناسبات هو الخوف من تكرار الوقوع في المماحكات السياسية من دون طائل أو فائدة، فلقد لفت انتباهي وبالتأكيد لفت انتباه الكثيرين غيري، تلك الدعوة مجهولة المصدر التي وجهت للاحتفال بيوم الشهداء بتاريخ 17 ديسمبر. إننا هنا نقع في الخطأ ذاته، فالدعوة إلى التضامن مع شهداء البحرين دعوة ليس عليها أي غبار أو اعتراض، وأحسب أن على الدولة التفكير جدياً في تشييد نصب للشهداء، لكن الإصرار على الاحتفال بهذه المناسبة في يوم من أيام الأعياد الوطنية الرسمية، يدفعنا لطرح سؤال عن القصد من وراء ذلك. أعرف أن كثيراً من الأصوات ستتعالى لتقول إن هذا هو اليوم الذي سقط فيه الهانيان في ديسمبر 1994 أثناء المظاهرة التي كانت متجهة صوب فندق الميريديان لتقدم رسالة احتجاج ومطالبة بالانفتاح وتفعيل الدستور وعودة البرلمان، ابان انعقاد قمة مجلس التعاون في البحرين في ذلك الوقت، لكن سؤالي ألم يسقط شهداء قبل هذا التاريخ؟

ثم إن اختيار 17 ديسمبر تحديداً يطرح علينا هذا السؤال: من الذي قرر هذا اليوم؟ومن هي الجهة التي تدعو له وتتبناه؟ وهل هناك اتفاق بين القوى السياسية والجمعيات على اعتماد هذا اليوم للتضامن مع الشهداء في البحرين؟ وهل يمكن ترتيب الاتفاق على يوم آخر تكون الدعوة إليه أكثر منطقية وتلاقي تجاوباً أكبر وأفضل مما لاقته دعوة هذا العام؟

رفقاً بأبناء البحرين، فلقد أصبحت كل أيامنا مواعيد للمناسبات الحزينة! وتعالوا بنا نفتش عن الفرح بين براثن الحزن والمصائب، تعالوا بنا نبحث عن مناسبات تجمعنا وتساهم في خلق تجانس أكبر بيننا. مناسبات للجميع، مناسبات للوطن كل الوطن، وليست مناسبات للتباعد والانقسام والتشكيك وزيادة الفرقة بيننا

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 846 - الأربعاء 29 ديسمبر 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً