العدد 846 - الأربعاء 29 ديسمبر 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1425هـ

عام الفتنة الأشد من القتل!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

سيسجل كتاب التاريخ، ان العام 2004 الذي يلفظ آخر أنفاسه، كان عام الدم والقتل والفتنة والفشل، على جبهات عدة وخصوصا في منطقتنا المعبأة بكل عوامل الصراع.

واذا كانت الصحف تجتهد عادة في رصد حوادث الدم المنصرم، يوما بيوم، بل ساعة بساعة فإنني سألتقط من هذه الحوادث خمسة ملامح أراها رئيسية، لعبت الدور المحوري في صوغ الوقائع وتركت من خلفها ألوانا داكنة ظللها فشل لا يجادل فيه مجادل اللهم الا هواة الدم.

أولاً: لقد كان عام القتل والدم المسفوك، فوق خريطتنا التي صارت حمراء، وليست كما كانت صفراء بلون الرمال الصحراوية، أو خضراء بلون الزرع اليافع.

من العراق الى السودان، ومن فلسطين الى الصومال، دارت معارك طاحنة وصراعات دامية، ظل بعضها كامنا لفترات طويلة حجبتها سحب النسيان والتجاهل والتعمية، وانفجر بعضها الآخر فجأة، لكن تظل الساحة الفلسطينية والمشهد العراقي، هما الأكثر معاناة من العنف المسلح، الذي سببه الاحتلال الأجنبي، ونفوذه المفروض فرضا، الاحتلال الأميركي الاسرائيلي للعراق، والاحتلال الاسرائيلي الأميركي لفلسطين.

لقد راهن مجرمو الحرب وصقور العنف المتحكمون في القرار الأميركي، من خلف ستار «المحافظين الجدد المتعصبين المتطرفين» على ان الافراط في استخدام القوة العسكرية الطاحنة القاهرة كفيل باخضاع العراق شعبا وأرضا ووطنا، بعد نجاحهم السريع في اسقاط نظام الرئيس المخلوع صدام حسين في ابريل/ نيسان من العام 2003، لكن الرهان سقط في وحل الورطة الكبرى والمقتلة العظمى.

فعلى رغم مرور هذه المدة الطويلة منذ الاحتلال الاميركي للعراق، وعلى رغم تدمير الدولة والآلة العسكرية العراقية واسقاط النظام الدموي، وعلى رغم 150 ألف جندي أميركي بكل الاسلحة التكنولوجية المتقدمة يساندهم عشرات الآلاف من البريطانيين والكوريين واليابانيين... الخ، لايزال نهر الدم يجري منافسا في الاندفاع لدجلة والفرات.

والسبب بديهي، فبقدر السهولة التي سقط بها النظام العراقي، بقدر الصعوبة التي نشأت فقد تصاعدت اعمال المقاومة المسلحة - بصرف النظر عن هويتها - لتدمي الجيش الاكبر في العالم على نحو جعل من المسرح العراقي نموذجا خطيرا للقتل والفشل معا، القتل متبادل والفشل كذلك، فلا أميركا حققت أهدافها واستقرت هناك ولا المقاومة طردت المحتل من اراضيها حتى الآن على الاقل، ليدخل الطرفان عاما ثالثاً من الصراع بعد ايام، وليثبتا معا ان المعادلة مازالت صحيحة، اذ طا لما هناك احتلال أجنبي فثمة مقاومة وطنية حتى لو سميت ارهاباً!

والامر مشابه في فلسطين الذبيحة، اذ شهد العام الماضي ذروة كبرى من ذرى القتل اليهودي المنفلت، لكل ما هو فلسطيني ومازالت المعادلة صحيحة، فحق المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني حق شرعي كفلته المواثيق السماوية والوضعية على السواء، وبقدر ما صعد السفاح شارون وعصابته الليكودية المتطرفة من عدوانه الهمجي الشرس، بقدر ما قابلته المقاومة الوطنية الباسلة بضربات موجهة، اطارت صوابه، على رغم تفوق السلاح وأدوات العدوان ومساندة أميركا، التي غالطت حتى ضميرها وقيمها... والنتيجة ان ما بدأ به العام انتهى به، هجوم ودفاع، على رغم غياب عرفات الذي كان متهما، بأنه «محرك الارهاب»!

في أقصى الجنوب لايزال الصومال يراوح مكانه، خطوة للامام نحو التصالح الوطني، وخطوتين للخلف نحو الاقتتال الاهلي، أما السودان فقد شهد ما يشبه ذلك تقريبا، خطوة للأمام نحو الاتفاق بين أهل الشمال وأهل الجنوب، وخطوتان للخلف بانفجار مخزون العنف في دارفور غربا، وربما يشتعل الموقف في الشرق والشمال بأكثر مما هو متوقع... مازالت عوامل الغضب والتمرد قائمة ومازالت جهود التصالح الوطني متعثرة ومازالت التدخلات الأجنبية ناشطة سافرة.

ثانياً: كان العام الماضي هو عام الفشل الديمقراطي بامتياز على المستوى الداخلي، للاسف الشديد لم تحقق الساحة العربية ولم تنجز تطورا ديمقراطيا، ولم تخترق سياج الحكم الفردي، ومن ثم تعرقلت كل مشروعات الاصلاح وتعثرت الحريات وحقوق الانسان بأكثر مما هي متعثرة، اللهم الا اللمم عبر التصريحات الدعائية والندوات والمؤتمرات الشكلية والدعوات اللفظية وهذه لا تحدث اختراقا الا بالصوت الأجوف!

وعلى رغم الضغوط والتحركات الشعبية الداخلية المطالبة باصلاحات سياسية وتعديلات دستورية وعلى رغم الهجوم الغربي - خصوصا الاميركي - فإن الآذان أصابها الصمم والعيون أصابها العمى والقلوب والعقول اصابها الزيغ. والفشل على هذا النحو وفي هذا الاتجاه، مرحل بالضرورة الى العام الجديد، مؤجل الى وقوع انفجار قد يأتي من الداخل، وتركبه قوى الخارج لتجبر الرافضين المعاندين لحركة التاريخ ورغبة الشعوب على الانصياع!

ثالثاً: كان هو عام الفتنة، وهي اشد من القتل، الفتنة بأشكالها وألوانها الدينية والطائفية والعرقية، ان كان بعض العابثين يحركونها من خارج الحدود، فالأصل والأساس ينبع من هنا، من تحت اقدامنا ويتسرب من بين ايدينا فهذه أرض ظلت على مدى التاريخ رقعة يتعايش ويتصارع فيها وعليها أجناس وثقافات وديانات وحضارات تعايشت طويلا في ظل التسامح وتصارعت احيانا في ظل التهميش وتراكم التفرقة والمظالم.

وأمامنا مرة أخرى ساحات مفتوحة يلعب فيها المتعصبون والجهلاء في الداخل، والطامعون المحرضون في الخارج لعبتهم الكبرى لتمزيق الاوطان وتفتيت الشعوب وتفكيك الدول، بحروب طائفية أو دينية، أو عرقية، وانظر الى ما يجري في العراق، اذ تؤذن الصراعات الطائفية والعرقية، بين السنة والشيعة وبين المسلمين والمسيحيين وبين العرب والاكراد، بهدم الوطن والدولة العراقية الموحدة، وتفتيتها الى كانتونات ممزقة!

وانظر الى محاولات تحريك الفتنة الطائفية في مصر، والتي ظهرت بعض تجلياتها في الاسابيع الاخيرة من عام القتل والفشل، لتثير ازمة معقدة بين المسلمين والمسيحيين ظاهرها فردي الطابع، وباطنها غضب متراكم، غابت فيه الحكمة المعهودة وتوارث الدولة بسلطاتها وسلطانها لتفسح المجال لغيرها، وتوارى رجال السياسة والقرار ليبرز رجال الدين، على حساب دور الدولة المدنية الحديثة، التي تكفل المساواة والعدالة وحقوق المواطنة للجميع من دون تمييز، فاذا النتيجة تنذر بالشر المستطير، ان لم تعالج الامور بحكمة وحسم معا. ثم انظر الى السودان، فعلى رغم ادراك الجميع ان الصراع الذي يدور منذ عقود طويلة، اساسه عوامل سياسية اقتصادية اجتماعية غاب عنها الحكم العادل الرشيد، فإن صبغة الصراع الديني العرقي - بين مسلمين وغير مسلمين وبين عرب وأفارقة - غلبت عليه لتجذب اطرافا خارجية، تهوى التدخل لفرض النفوذ وبسط الهيمنة، طالما ان اصحاب الشأن مغيبون لاهون على نحو يثير الرثاء!

رابعاً: ظل ايضا عام التقلب والانقلابات السياسية المفاجئة صاحبتها تقلبات عنف وارهاب طالت دولا كانت تعتقد انها بمنأى عن كل الشرور والآثام، مثلما صاحبتها دراما انسانية بموت الزعيم الفلسطيني عرفات في غموض نادر وشبهات معقدة لكن موته - سبحان مقلب القلوب ومغير الاحوال - كشف عن تحولات عدة وخصوصا في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي فثمة تفاؤل اسرائيلي أميركي بقيادة فلسطينية مرنة جديدة تقبل بما كان يرفض عرفات «المتصلب» وثمة رسائل ومراسلات تجرى من هنا الى هناك وبالعكس لكنها تظل حتى الآن اسيرة الشكل بعيدة كل البعد عن المضمون لأن «إسرائيل» لا تريد الدخول في جوهر الصراع!

وعلى رغم التفاؤل بمرونة القيادة الفلسطينية الجديدة والوريث القادم، فإن العنف الشاروني المسلح لايزال هو سيد الموقف يتحدث الرجل بلسان، ويقتل بسلاح بارد، ولم يشأ ان يختتم العام الا بغلالات الدم الفلسطيني المسفوك تهنئة لبيت لحم بعيد الميلاد المجيد!

وعلى رغم التحول الواضح في السياسة المصرية تجاه «إسرائيل» و«ترطيب الاجواء» وعلى شارون عبر الرسائل والرسل واطلاق سراح الجاسوس عزام، وتوقيع اتفاق «الكويز» المرفوض منذ 1996 وفتح طرق التجارة والتطبيع والمشاركة في تشديد اجراءات الامن على حدود غزة وسيناء فإن الرد الاسرائيلي لايزال على عهده من المراوغة والممانعة والدليل ان شارون لم يقدم حتى الآن مقابلا لكل هذه التحولات المصرية، ولا نظن أنه سيقدم شيئا يقنع السياسة المصرية بصحة مبادراتها، أو يقنع الرأي العام بأن شيئا من هذا القبيل يستحق كل هذه التضحيات من دون مقابل حقيقي !

على الناحية الاخرى وقعت سورية ومعها لبنان في مصيدة الدعوات الصارخة بمحاصرتها من كل اتجاه بين الجيوش الاميركية، في العراق شرقا والجيوش الصهيونية في فلسطين غربا، ونزل عليها الهجوم السياسي الاميركي مصحوبا بالتهديد العسكري ليترافع مع قرار الامم المتحدة رقم 1559 الهادف إلى اجبارها على الانسحاب عسكريا وسياسيا أمنياً من لبنان، فإذا بها في صراع على كل الجبهات، وعلى رغم كل ما أبدته دمشق حتى الآن من مرونة سواء تجاه الاميركيين في العراق باتفاق على تشديد الرقابة واغلاق الحدود وتأمينها حتى لا يتسرب منها مقاتلون الى العراق، أو تجاه «اسرائيل» باعلانها الاستعداد للتفاوض المباشر من دون شروط مسبقة، الا ان الضغوط تتزايد لتحجيمها وتمزيق صلاتها سواء باشقائها العرب او بحلفائها الايرانيين، الذين هم أصلا تحت نيران الضغوط الاميركية الاسرائيلية الأوروبية المتزايدة التي قد تنفجر عسكريا في العام الجديد.

خامساً: المحصلة النهائية ان العام 2004 هو عام الاكتساح الاميركي بقيادته السياسية المتطرفة والدينية المتعصبة وخصوصا بعد النجاح المؤزر للرئيس بوش في ولايته الثانية التي تبدأ رسميا بعد أيام قلائل ومعه كتيبة مقاتلة من أشد صقور اليمين الديني المحافظ المتلهف على القتل والعدوان باسم الله!

وتلخيصا لملامح السياسة الاميركية الجديدة العابرة من عام مضى الى عام مقبل، نقول انها تبشر بخمس اشارات كبرى هي:

1- الاندفاع في استخدام القوة المسلحة المفرطة القاهرة في اخضاع «الدول والشعوب المارقة» ليس في العراق وفلسطين والسودان وحدها، بل ربما في سورية ولبنان وايران.

2- زيادة دعم «إسرائيل» وتوفير مظلة أمان لسياستها

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 846 - الأربعاء 29 ديسمبر 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً