العدد 845 - الثلثاء 28 ديسمبر 2004م الموافق 16 ذي القعدة 1425هـ

«الوسيط» الأميركي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل تتحول الانتخابات العراقية إلى مناسبة للاقتتال الأهلي أم أنها تكون واسطة للخروج من مأزق انسداد آفاق الحل في بلاد الرافدين؟

عادة ما تكون الانتخابات وسيلة لاحتواء تعارضات المجتمع ومحاولة للحد من التطرف إلا أن ما هو حاصل في العراق يتجه نحو الضد. فالقوى السياسية متمسكة بمواقفها المبدئية ومنقسمة على نفسها بين تيار يؤيد بشدة انعقاد الانتخابات في موعدها وبين تيار يعارضها بشدة ويطالب بتأجيلها.

التيار المؤيد يتمسك بالموعد بذريعة أن الانتخابات ستسهم في إعادة ترتيب السلطة التشريعية وبالتالي ستوضح العلاقات مع الاحتلال. والتيار المعارض يتمسك بالتأجيل بذريعة أن الانتخابات لن تكون نزيهة في ظل وجود الاحتلال وانفلات الوضع الأمني.

الاحتلال هنا يلعب لعبته الخطرة بصفته المستفيد الوحيد من الانقسام الأهلي، فهو من جهة يعلن تمسكه بموعد الانتخابات ولكنه من جهة أخرى يشجع على دعوات مقاطعتها. فالاحتلال يتبع أسلوب تكبير رأس كل فريق حتى يضعف قوتهما. فالاختلاف الداخلي يصب في مصلحته في النهاية ويجعله الطرف الوحيد القادر على إدارة اللعبة بين معارض بشدة ومؤيد بشدة. كذلك يستطيع الاحتلال إعادة توظيف كل المواقف في خدمة بقاء قواته إلى فترة طويلة بذريعة أن أهل البلاد غير موحدين وبالتالي يصبح وجوده ضرورة «وطنية» لمنع شعب العراق من الاحتراب والتذابح. فالخلاف في التحليل الأخير يعزز سياسة «فرّق تسد» بينما الاتفاق الأهلي يضر بمصالح الاحتلال ويهدد إمكانات استمرار قواته إلى فترة غير معلومة.

أسوأ خبر للاحتلال الأميركي هو أن تتفق الأطراف العراقية على موقف موحد من الانتخابات. فإذا اتفقت على إجراء الانتخابات في موعدها فإن الاحتلال سيكون المتضرر الأول وإذا توافقت على تأجيلها سيكون الاحتلال المتضرر الأول... لأن ذلك يعني أن الشعب العراقي توصل إلى صيغة مشتركة تحفظ الحد الأدنى المطلوب للتضامن وتصون وحدة الدولة من احتمالات التفكك والانهيار. وهذا بالضبط ما لا يريد الاحتلال سماعه.

لذلك ليس مستبعداً أن تكون الأطراف العراقية المحلية تلعب لعبة الاحتلال من دون وعي منها لمخاطر الاستمرار في سياسة التشنج والانزلاق نحو المزيد من استخدام لغة متطرفة في التخاطب السياسي بين المجموعات الأهلية.

مراقبة لغة التخاطب بين التيار المؤيد لإجراء الانتخابات في موعدها والتيار المعارض لها تصب كلها في خانة السلبيات. وهناك مخاوف من انفلاتها وخروجها على ضوابط العقل فتتحول السياسة إلى شتائم وإهانات متبادلة، الأمر الذي سيزيد من صعوبات التفاهم ويعطي الاحتلال المزيد من الذرائع لمواصلة دوره وهو إضعاف مختلف القوى من خلال استغلال خلافاتها.

مقاطعة الانتخابات تفيد الاحتلال لأنها تشكل وسيلة إعلامية للقول إن نصف الشعب العراقي غير ممثل في السلطة التشريعية. وإجراء الانتخابات في ظل المقاطعة يعني أن الشعب العراقي انتخب سلطة غير مكتملة الشروط وناقصة الشرعية ولا تملك صدقية واضحة في مختلف قطاعات الشعب وطوائفه. فالمسألة سيئة على الطرفين وهي جيدة للاحتلال لأنها تعطيه المزيد من الشرعية للتدخل في شئون البلاد بذريعة أنه يريد التوازن ولا يقبل التفريط بحقوق الطوائف والمذاهب والمناطق. وعلى هذا يمكن فهم لماذا تدخل الاحتلال في الأيام الماضية تحت غطاء «الكوتا» لتأمين تمثيل المناطق المقاطعة من خلال التعيين أو إجراء انتخابات جزئية ومنفردة في موعد لاحق.

«الكوتا» تعني ضمناً الإبقاء على دور خاص للاحتلال وتقديم واشنطن نفسها ساعياً للخير والطرف الحريص على وحدة البلاد وفرض التوازن بين طوائف العراق بينما تكون وظيفة «التوسط» بين الطرفين المتناحرين الإبقاء على تلك المسافة بينهما وتحويلها إلى ملعب كرة تتحكم بشروطها قوات الاحتلال. فواشنطن بعد تجربة مريرة في العراق تطمح الآن إلى لعب دور الحكم الرياضي الذي يمنع احتمال تصادم الفريقين وبالتالي استدراج المشاهدين إلى ساحة الملعب للاقتتال والتصارع.

الرد العراقي المعقول لمنع الاحتلال من الاصطياد في مياه الانتخابات هو قطع الطريق عليه للعب دور الحكم المحايد لأن في ذلك إهانة لذكاء الشعب العراقي وتاريخه السياسي الذي لم يشهد حالات تورط طائفية ومذهبية على رغم ما عانت بلاد الرافدين من انقلابات وحركات تمرد واستبداد طويل الأمد.

أساس الرد على سياسة «فرّق تسد» هو انتقال الأطراف العراقية من المواقف المتشددة واللغة المتطرفة وتسليم الأوراق للاحتلال إلى منطق التسوية. فالتسوية ليست عيباً ولا خيانة لأعراف القبيلة وتقاليدها بل هي سياسة عاقلة تحاول ضبط توازن المصالح تحت سقف وحدة البلاد التي تضمن ترتيب علاقات السلطة من دون غلبة فريق على آخر. منطق التسوية أفضل بكثير من سياسة «فرّق تسد» فهو على الأقل ينجح في منع الاحتلال من لعب دور الوسيط في وقت يريد إضعاف كل طوائف العراق

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 845 - الثلثاء 28 ديسمبر 2004م الموافق 16 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً