في الطريق إلى «المنار» في حارة حريك الواقعة جنوب العاصمة اللبنانية، لم يكن السائق البيروتي يعرف الطريق إليها، وظل يسأل المارة حتى وصلها بعد تأخير لأكثر من نصف ساعة عن الموعد المضروب.
في الحارة تشاهد صور الشهداء وعلماء الدين البارزين، وكلمات مأثورة للإمام الخميني الراحل، وعند المدخل هناك حاجز يقف عليه أحد الحراس المدنيين.
عند الوصول إلى قناة «المنار»، ضحى يوم الجمعة، العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، كان الارتباك واضحاً على الحركة هناك، بسبب وفاة مصورَي «المنار» الشابين ربيع فحص وعلي الموسوي في حادث مروري في طريق عودتهم من الجنوب فدفنا ليلاً، فيما دخلت زميلتهما المذيعة المستشفى. وتتلقاك لافتة تعزية لأسرة «المنار» ولعائلة الفقيدين عند مدخل المبنى.
وفي الوقت نفسه كان هناك مؤتمر تضامني مع «المنار» في حربها مع الرقابة الفرنسية لمنعها من البث، وذلك في نقابة الصحافيين. وكانت القناة تبث وقائع المؤتمر، ما استدعى إلغاء نشرة أخبار الحادية عشرة والنصف. وبعد أكثر من أربعين دقيقة من الانتظار، التقاني مدير التشريفات خيرالدين خيرالدين، وكان رقيقاً جداً في الاعتذار عن التأخير وعدم تمكنه من الإطالة لشدة انشغاله في هذا اليوم الاستثنائي في حياة «المنار».
القسم العبري المزعج
من نقاط الإزعاج للإسرائيليين القسم العبري بفضائية «المنار»، إذ تميّزت الفضائية بمتابعة التلفزيون الإسرائيلي ونقل ما يبثه من أخبار ساخنة، إضافة إلى نقل ما يجري من مناقشات بين الإسرائيليين على الهواء، ما يفتح المجال للتعرف على طريقة تفكير هذا العدو الشرس.
«الوسط» في زيارتها لـ «المنار» في حارة حريك، تمكنت من دخول هذا القسم والتقت أحد العاملين فيه، ليحدثنا عن قصته في هذا المجال.
أحمد عمار، شاب في منتصف العقد الرابع من عمره، يروي لنا حكايته:
اعتقلت في العام 1986 بعد تنفيذ عملية عسكرية ضد المحتل الصهيوني، وأبقيت في معتقل الخيام أشهراً عدة، ثم نقلت إلى داخل فلسطين المحتلة، إذ بقيت 14 عاماً. واستطعنا اتقان العبرية عبر سماع الأخبار والاطلاع على الصحف الإسرائيلية. وكان معنا بعض الفلسطينيين من الأراضي المحتلة العام 1948، وهم يتقنونها فتعلمنا الأساسيات والأحرف العبرية، ومنها انتقلنا لتعلم اللغة.
وهل كانت الصحف والتلفزيون والإذاعة مسموحة لكم؟
- لم يكن الوضع كذلك في الأيام الأولى، فالوضع في فلسطين كان مثل وضع سجن الخيام، لكن في فلسطين خضنا اضرابات كثيرة استمر بعضها 15 يوماً، وكانت «إسرائيل» مضطرة للاستجابة لأن الصليب الأحمر الدولي يقوم بزيارات للسجون الإسرائيلية ويطلع على أوضاعنا، وبالتالي كان صوتنا يصل إلى الخارج. وبعد سنوات من الاعتقال حصلنا على الراديو وبعد سنوات أخرى حصلنا على التلفزيون.
وهل كنتم تطلعون على كل المحطات؟
- فقط المحطات العبرية، وتلفزيونات الدول التي وقعت مع «إسرائيل» اتفاقات سلام، مثل مصر والأردن.
إذن كنتم في صورة الأحداث؟
- نعم، عموماً ولكن ليس بشكل تفصيلي. اما عن أخبار لبنان فكانت ضئيلة، ماعدا الأخبار البارزة التي تضطر «إسرائيل» لإبرازها مثل العمليات الكبيرة التي كانت تأخذ مدى كبيراً في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي فترة من الفترات صرنا نلاحظ انهزاماً في نفسية المجتمع الإسرائيلي.
ماذا عن تواصلكم مع أهاليكم في لبنان؟
- لم يسمح لنا بالتواصل، فقط كتابة رسالة واحدة في السنة، وتحمل أخباراً عائلية بتحفظ وتصلنا عبر الصليب الأحمر.
وماذا عن معاملة العدو الصهيوني؟
- قضينا سبعة أشهر تحت التعذيب، وكانت فترة قاسية جداً، من ضرب واستخدام الكهرباء والهراوات، ووضع المعتقل في زنزانة مساحتها 60 في 40 سم، فيجلس في وضعية القرفصاء، مع تعرية السجين وصب الماء البارد، فضلاً عن السباب والشتائم.
وهل كنتم لوحدكم أم اختلطتم بسجناء آخرين؟
- اختلطنا بسجناء من مختلف الفصائل الفلسطينية، وطنية وإسلامية. كما اختلطنا بسجناء جنائيين من اليهود. لقد تعرفنا على ذلك المجتمع عن كثب، فإذا نقلنا عنه شيئاً فإننا لا ننقل اللغة فقط وانما ننقل رؤية قريبة من الواقع وفي العمق. وهناك طريقة موضوعية في النقل من دون زيادة أو نقصان. فالصراع كما تعرف صراع وجود، ونقلنا في «المنار» انما يترجم هذه الرؤية لمجمل الصراع، وهي صورة تتميز بها «المنار»، ونقلنا للحوادث انما هو واجب نستشعره وجزء من مسيرة المقاومة، التي لم تحقق هذا الانتصار إلا بمعرفة طبيعة هذا العدو وليس بالشعارات والمزايدات، وخصوصاً المعرفة الثقافية والسياسية.
هل قرأتم الأدب العبري في سجون العدو؟
- لا، لا توجد كتبهم، فقط كتب عربية غير مسيسة وليس لها علاقة بالصراع، مثل كتب السيرة والفقه والعقيدة، ويسمح لك بكتابين كل ستة أشهر، كما نحصل على الكتب من السجناء الفلسطينيين، الذين كونوا مكتبة في إحدى غرف السجن، لكن التلفزيون العبري عموماً كان يبث برامج، وهناك حيزٌ كبير من الحرية لديهم، طبعاً لليهود. أود أن أشير إلى أنه بعد 14 سنة من معرفتنا باليهود نتبين حقائق قرآنية عجيبة...
مثلا؟
- اليهودي إنسان يحب المادة إلى أبعد الحدود، يعبد المال وليس عنده رادع أن يظلم. مجتمع منافق من أجل تحقيق الهدف، ويدجّل على كل العالم ويظهر صورة إنسانية عن نفسه. ومع ذلك اليهودي يشتغل بعقله وعنده طول نفس كبير.
أليس ما يجري في فرنسا من محاصرة «المنار» دليلاً على ذلك؟
- نعم، هذه طبيعة الإجرام عند الصهاينة، فليس هناك شيء اسمه القيم. ولا أقولها لأني مسلم فهذا ما لمسناه بالتجربة، فالتشابه بينهم كبير حتى وإن تعددت مناطقهم الأصلية تبقى طبيعتهم اليهودية، الدجال الذي يتخطى كل الحدود.
أليس هذا رد فعل للظلم الذي وقع عليك؟
- في المعتقل يكتسب السجين نضجاً سياسياً وفكرياً وثقافياً، فلا تعود تحمل مشاعر الحقد والانتقام لأنك تعرف أن هذا العدو ستقاومه حتى النهاية، ولا مجال للهدنة أو الحل الوسط. هو هكذا فلا مجال للتعايش معه. فإذا تحركت بعدها فإنما تتحرك بنضج وعقل. العدو شرسٌ جداً إلى أبعد الحدود، ويجب ألا يغيب ذلك عن أذهان العرب.
وهل عندك نية للكتابة عن هذه التجربة؟
- نعم، فأنا اعتبر الكتابة أمانة، لكنها تحتاج إلى وقت واستقرار وتأنٍ بشأنها.
الآن، هل يدرك الإسرائيلي أنكم كنتم سجناء لديه وتقومون بهذه العملية الإعلامية المزعجة بالنسبة إليه؟
- لا أجزم بذلك، ولكن أسماءنا تظهر على الشاشة. وعموماً كانت محاولاتهم أن يخرج السجين مهلهلاً مكسور الإرادة، مهزوماً جاهلاً، فأنت تكسر كل هذه القيود بإرادة الله وتخرج أكثر إصراراً ونضجاً.
هل احسست بفراغ زمني يفصلك عن المجتمع بعد التحرر؟
- لا، لكن إخواني وزملائي بعضهم استشهد، وبعضهم تزوج، مع فارق السن.
وما هو وضعك الاجتماعي؟
-متزوج ولي بنتان، 3 سنوات والأخرى 3 أشهر.
في لقاء مع مدير تحرير الأخبار الشاب علي الحاج يوسف، قال إن «المنار» أسست في العام 1990، وتحوّلت إلى فضائية في العام 2000، وإن كل العاملين فيها من الشباب والكوادر اللبنانيين.
وأين كانت الحواضن التي تولت تدريب هذا الشباب؟
- عادة ما كانت تنشر «المنار» إعلانات عن الوظائف الشاغرة، وتختار الأنسب من بين المتقدمين. فالمحرّر مثلاً عادة ما يكون قادماً من الجامعة، فيحتاج إلى تدريب لاكتساب الخبرة، وعامل المونتاج عادة ما يكون اختصاصياً فنياً... وهكذا.
وماذا عن التمويل؟
- مجموعة من الجمعيات الأهلية كانت رديفة لحزب الله، اجتماعية الطابع، هي التي تولّت تمويل إنشاء «المنار»، وبعدها خضعت كمحطة للقوانين اللبنانية وتحوّلت إلى شركةٍ مرخّص لها. والشق الأكبر من التمويل يأتي عن طريق الاعلانات، فيما يأتي جزء آخر عن طريق التبرعات.
وماذا عن التمويل الإيراني؟
- لا توجد أيّة علاقة عضوية ولا دور مباشر لإيران في «المنار». نعم هناك علاقة ود موجودة طبعاً، ولكن ليست هناك إطلاقاً أية علاقة عضوية.
وماذا عن الخمس، هل يسهم في التمويل؟
- في مجال ضيق جداً، وفي هذه الحال يخضع الأمر للوكيل الشرعي للمرجع الديني وليس لدينا وكالة شرعية لتسلم الأخماس.
من الناحية التجارية هل هناك هامش أرباح؟
- الربح لا، لكن هناك توازن، فجزء كبير من الإعلانات التي تبث في الفضائيات الأخرى، لا تبثه «المنار»
العدد 845 - الثلثاء 28 ديسمبر 2004م الموافق 16 ذي القعدة 1425هـ