الزلزال الرهيب الذي ضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية وما تلاه من مدّ بحري هائل ارتفعت خلاله الأمواج إلى عشرة أمتار وبسرعة 500 كلم في الساعة... يذكر الإنسان من جديد بضعفه أمام غضب الطبيعة. فالزلزال لم تقتصر أضراره على حيز جغرافي محدد وإنما انتشر قارياً وضرب الكثير من المناطق المتجاورة جغرافياً والمتباعدة سياسياً وقومياً ودينياً. فالطبيعة في لحظة الغضب والهياج لا تفرق بين بني البشر ولعل هذا يذكر الإنسان مجدداً بالمصير المشترك الذي يجمع الإنسانية على مجموعة مبادئ ومخاطر.
زلزال سومطرة هو عبرة على رغم الكوارث التي جلبها وسببها للكثير من الناس. وهو أيضاً رسالة تعيد تذكير الإنسان بضعفه على رغم ما يظهره من جبروت وتشاوف على الطبيعة واستعلاء على الموت. وما حصل في سومطرة يمكن أن يتكرر في أي مكان وفي أي وقت. فالمشهد المرعب الذي اجتاح شواطئ إندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش وتايلند والهند وسريلانكا ومالديف وصولاً إلى سواحل عُمان واليمن وكينيا والصومال في شرق جنوب إفريقيا، وجرف معه آلاف الضحايا وهدم القرى وأحياء المدن... هو من المشاهد التي يصعب وقفها أو منعها أو حتى السيطرة عليها. فالمشهد لحظة ضعف تذكر الإنسان مجدداً بأن العالم على اتساعه وكبره هو صغير الحجم بمقاييس الطبيعة والزمن. فالعالم لايزال حتى الآن يدب على الأرض بحثاً عن ملاذ آمن في وقت تدعي الكثير من الدول تلك القدرات الهائلة في السيطرة على حركة الإنسان وتحولاته. فالعالم كبير قياساً بإمكانات البشر ولكنه في لحظة زمنية لا تتجاوز الدقائق الثلاث يكتشف فجأة أنه لايزال مثل ذاك الطفل الرضيع الذي يحتاج إلى مساعدة لتلبية حاجاته من طعام وماء.
المشكلة في الإنسان أنه ينسى بسرعة. فالزمن في ذاكرته مجموعة لحظات تمرّ لتأتي غيرها من لحظات وتتحول الكوارث إلى ذكرى لا تترك سوى الأسى والحزن، ومن النادر أن تتحول إلى وقفة تأمل بمصير البشر في لحظة انقلاب الطبيعة.
أمواج المدّ البحري انحسرت بسرعة تاركة وراءها تلك الأهوال التي اجتاحت البشر ودمّرت الحجر. ومع انحسار المدّ ستنحسر معها الذاكرة التي لا تقوى على استيعاب أو فهم الدلائل التي يجب أن تتركها مثل تلك الكوارث التي تجتاح الإنسانية بين فترة وأخرى. زلزال سومطرة القاري لم يفرق بين الأديان والقوميات والجنسيات والألوان. فأمواجه امتدت إلى حيث انتهت ضاربة كل الحواجز وصولاً إلى شرق إفريقيا. بينما الإنسان يصرّ على التمييز والتفرقة وينساق نحو سياسات متهورة تقودها شركات كبرى تعتبر أنها تملك القدرات على السيطرة على الطبيعة والاجتماع وربما الحياة والموت. زلزال سومطرة صفعة لتلك الادعاءات. ادعاءات تلك الشركات الكبرى التي تقول إنها توصلت إلى القبض على قوانين الطبيعة والاجتماع ولكنها في النهاية تنتهي إلى إثبات فشلها في التوقع أو في الكشف أو في السيطرة على تلك الدقائق الثلاث التي تهزّ الدنيا في لحظات.
المشكلة في الإنسان أنه ينسى بسرعة والشركات الاحتكارية الكبرى تعتمد كثيراً على ذاكرته القصيرة. فما إنْ تنحسر أمواج الكارثة حتى تعاود سيرتها الأولى في اكتناز المال وتنظيم الحروب وافتعال الأزمات لتصريف ما تكدس في مخازنها من أسلحة وأدوية. فهذه الشركات الاحتكارية الكبرى (المتعددة الجنسية) القابضة على ثروات العالم تبحث عن الأرباح لا عن سعادة الإنسان التي لا تأتي من دون عدالة وتوازن بين البيئة والبشر.
المليارات تنفق يومياً على إنتاج وتسويق أسلحة الدمار. ويومياً يسقط المئات من البشر من الأمراض والجوع والجفاف. ويومياً يموت الأطفال من الحرمان وسوء التغذية في وقت ترمي الدول الكبرى آلاف الأطنان من المواد الغذائية في سلال المهملات.
الولايات المتحدة وحدها تستهلك 20 في المئة من إنتاج العالم وسكانها لا يشكلون 5 في المئة من تعداد البشر. وكل أميركي يستهلك أكثر من عشرة صوماليين في اليوم ومع ذلك نجد شركات الاحتكار واكتناز المال والثروات تنظم الحروب وتدفع بالجيوش لاجتياح العالم في مشهد عبثي يذكّر بتلك الأمواج الهائلة التي ضربت من دون تمييز وتفرقة سواحل شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا.
زلزال سومطرة هو مجرد جرس ليذكر العالم بأن الإنسان ينسى دائماً في وقت يدعي القوة والسيطرة بينما الواقع يوكد مجدداً أن هناك مسافة طويلة بينه وبين القدرة على امتلاك الحقائق والتوقع.
مأساة سومطرة وتداعياتها الطبيعية هي مجرد لحظات في عمر الإنسان تحصل مرة كل مئة عام، بينما الكارثة الحقيقية هي في تلك المآسي الناجمة يومياً عن أمواج الاحتكار والحروب والأمراض والمجاعات التي تفتعلها الشركات الاحتكارية الكبرى لحرمان الإنسان من العدالة والسعادة. وهنا بالضبط مركز شقاء الناس. فالشركات الاحتكارية هي المصدر الدائم للزلازل السياسية بينما زلزال سومطرة هو مجرد لحظات للتنبيه. ولعل في الأمر عبرة وذكرى
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 844 - الإثنين 27 ديسمبر 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1425هـ