التقرير الذي صدر عن ديوان الرقابة المالية قبل فترة يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح. وتبع ذلك بدء الديوان النظر في نشاطات بعض الهيئات والمؤسسات الكبرى، والامل في أن يتحول هذا النشاط الخفي والبطيء إلى محاسبة حقيقية تؤدي إلى إدخال المتلاعبين بالمال العام - كائناً من كانوا - إلى السجن، وإرجاع المال الذي انتهبوه بوسائل شتى إلى خزانة الدولة.
والحقيقة، إن هناك ربطا مباشراً بين النظام السياسي العادل القابل للنمو والنهوض من جانب، وانعدام الفساد الإداري والمالي من جانب آخر. وهذا ليس ما تقوله التجارب المتطورة التي نشاهدها في عصرنا حالياً فحسب، وإنما هو ما قامت عليه الحضارة الإسلامية أساساً. فالرسول محمد (ص) عندما أسس الدولة الإسلامية أعلن تحريم السرقة والاعتداء على مال الغير. كثير من العرب كان يحلل لنفسه الاعتداء على الآخرين خلال أكثر أشهر السنة ماعدا الأشهر الحرم، وجاء الرسول (ص) ليقول لهم إن الحرام حرام طوال السنة، والسرقة تمثل واحدة من أبشع الجرائم. ولم يكن بالامكان ايصال الرسالة واضحة إلا بإعلان تشريع قطع اليد، بل ان محمداً (ص) أعلن للجميع أنه لن يكون هناك أي اسثناء حتى لو كانت فاطمة (ع).
وهذا هو الأساس، أن يُعلن القانون، وأن يُطبق على الجميع من دون استثناء. وعندما يحدث ذلك تستقيم الأمور. فمشكلتنا اننا لم نسمع في يوم من الايام انه تمت محاكمة احد المسئولين ومعاقبته، على رغم كل ما يبدو من كثير من الممارسات التي تشم منها روائح الفساد المالي والإداري.
الفساد الاداري والمالي ظاهرة تنتشر في كثير من البلدان، ولاسيما تلك المحرومة من الاجواء الديمقراطية، لانه لا يوجد من يسأل المعتدي على المال العام اي سؤال. وهناك الآن حديث عن ان بعض الذين ثبتت عليهم تهمة محددة يقايضون على اساس ارجاع ما تم تثبيته مقابل عدم المثول امام المحكمة.
إن العدالة ومصلحة البحرين تتطلب ارجاع المال كله الى خزانة الدولة وليس الذي تم تثبيته فقط، ومن ثم المثول امام محكمة علنية وبعد ذلك نيل الجزاء وهو قضاء فترة في السجن واستعادة الاموال والممتلكات لكي يتعظ كل من تسول له نفسه الاعتداء على المال العام. فما هو واضح أن تثبيت الفساد من أصعب الأمور، وحتى لو ان فلاناً استحوذ على ما ليس له والناس يعلمون، فإن الأوراق - في ظل غياب طويل عن المحاسبة - يمكن «تضبيطها» بحيث يبدو كل شيء وكأنه سليم من التلاعب.
لقد وقف الشعب صفاً واحداً خلف مشروع جلالة الملك لانه المشروع الذي وعد بازالة الظلم والفساد وافساح المجال للحريات العامة ضمن اطار دستوري يرقى إلى الديمقراطيات العريقة، والآمال معقودة على تحقيق جزء مهم من هذه الوعود. فرأس المال الاجنبي سينهال على البحرين للاستثمار عندما يعرف الجميع أن الفساد المالي ممنوع، وانه لا يوجد احد فوق القانون. وهذان السببان يقفان خلف ذهاب رؤوس الاموال إلى العواصم غالية الثمن لا لشيء إلا لان المستثمر مطمئن على ماله، ويعرف انه سيعامل بعدالة وشفافية من دون الحاجة إلى دفع «عمولات» أو تمرير صفقات تحت الطاولة.
إن على ديوان الرقابة المالية ان يدشن كل صلاحياته في الرقابة من اجل اثبات ان ما قاله جلالة الملك امر واقع، وليست له استثناءات او تسويفات، وفي ذلك انبعاث لروح جديدة في بلادنا. فالشعب الذي يرى ان حقه مصون مستعد للتضحية بجهده بل وبنفسه من اجل بقاء النظام العادل.
يجب أن نسعى لازالة أي نوع من الحصانة التي قد تمنع ديوان الرقابة او النواب او الهيئات المدنية المختصة - محلية كانت او دولية - من ممارسة دورها في مكافحة الفساد والحفاظ على المال العام
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 844 - الإثنين 27 ديسمبر 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1425هـ