أرادت المملكة المغربية أن تغلق ملفات ضحايا التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، وتطوي هذه الصفحات إلى الأبد، فلم تعمد إلى الفرار منها، أو الإشاحة بوجهها عنها، بل شكلت بأمر ملكي هيئة أسمتها «الحقيقة والإنصاف» ليتقدم إليها حوالي 200 من الذين شكوا من انتهاك حقوقهم وتعرضهم لصنوف شتى من التعذيب والتعدي على حقوقهم وسلامتهم الجسدية والنفسية، وانخرطوا في سرد مرير ومؤلم لما تعرضوا له في هذا الشأن منذ العام 1956 وحتى تسلم الملك محمد السادس مقاليد الحكم في العام 1999، وذلك في جلسات أمام الناس والإعلام، جلسات علنية خففت الضغوط النفسية التي عايشها هؤلاء لسنوات طويلة، وهم يشعرون أن ما حدث لهم لا تكتمه إلا صدورهم، ولا أحد يلتفت إلى ما آل إليه حالهم على شتى المستويات.
القائمون على الهيئة عقدوا اتفاقاً مع المدّعين بالتضرر، بألا يتم التطرق إلى أسماء الشخوص الذين يدعي المتضررون أنهم مارسوا ضدهم الانتهاكات، في هذه الجلسات العلنية، تجنباً لمشكلات معقدة قد ترد فيما بعد، مع ترك باب التقاضي مفتوحاً لمن أراد أن يقيم دعوى ضد من انتهكوا حقوقه وروعوه أو أضروا به، هذه «التفصيلة» في عدم ذكر أسماء من تسببوا في معاناة أكثر من 20 ألف مغربي لديهم ملفات وقصص، لم ترض تماماً القائمين على جمعيات حقوق الإنسان في المغرب، ولكنهم لم يخفوا ارتياحهم من هذه الخطوة الأولى.
هذه الخطوة المغربية تعد الثالثة إفريقيا (بعد غانا وجنوب إفريقيا) والأولى عربياً وإسلامياً، فحظيت بإشادة دولية واسعة لما في ذلك من «تنفيس» مهم للضحايا، ومحاصرة أهم لمن يبطش أن يعيد التفكير مرتين أو أكثر قبل أن يأمر باعتقال أو ضرب أو حتى تصفية من يُعتقد أنهم يقومون بأعمال سياسية لا تتفق مع النظام.
التجربة المغربية مرشحة اليوم لتتمدد في الوطن العربي الذي «من البحر إلى البحر» تقارب سجّانوه وسجونه وشجونه أكثر من تقارب حدوده، ولكن ذلك شريطة نجاح التجربة، وجود أنظمة تريد أن ترتاح وتطوي ملف الآهات إلى الأبد، وعدم تعرض التجربة للمزايدات وابتعاد المتسلقين على جروح الضحايا
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 841 - الجمعة 24 ديسمبر 2004م الموافق 12 ذي القعدة 1425هـ