في كل مجلس لابد ان تسمع صوتا مغايرا لكنه معاكس تماما لاجواء المجلس. نبرة الشك فيه أكثر من الحد الطبيعي الذي يفرضه المنطق حتى منطق الشك نفسه. ولإضفاء الصدقية على التشكيك يتعين الاستعانة بالقصص الصغيرة: واقعة فساد قديمة، قصص مظالم صغيرة تحتاج للتدقيق، صور معاناة فردية مع أجهزة بيروقراطية، قصص منقولة تبدأ دوما بالمفردة المتكررة: «يقولون».
التأثير مباشر على الدوام وليس المطلوب هو التحقق من الوقائع والقصص التي يسردها هذا الصوت، بل ان النتيجة الأهم تكمن في الشعور الذي يعم المجلس بعدم إمكان المضي قدما في مناقشة عقلانية. سيتعين على من يريدون هذه المناقشات الالتفات لهذه القصص ومحاولة التعامل معها لاستعادة النقاش في مجراه الآخر الذي قطعته هذه القصص. ولأن احدى أهم مواصفات أصحاب مثل هذه الأصوات هي «العناد»، فإن الوقت يمر حتما في نقاش عقيم بعيدا عن أية محاولة جادة للتفكير بهدوء وعقلانية أو حتى محاولة التقدم بالكلام خطوة للامام.
التفكير المنطقي يدفع أيا منا لأن يتصور ان الشكاوى المستمرة من انعدام النظافة مثلا قد تفضي بالمتحاورين الى اجتراح مبادرة ما. كأن يقولوا مثلا: حسنا، مللنا الشكوى المستمرة لماذا لا نبادر الى القيام بحملة نظافة بأنفسنا في يوم الخميس أو الجمعة، وبهذا نكون قد عمقنا الاحساس بالمسئولية لدى مواطنينا ولدى ابنائنا واحرجنا اولئك البيروقراطيين في مكاتبهم وشركات النظافة نفسها ودفعناهم للتجاوب معنا بشكل افضل. لكن بوجود تلك الاصوات فإن النقاش لن يأخذ هذا المنحى وهذا هو التأثير الأول لاصحاب مثل تلك الاصوات. هل تعرفون ماذا يعني هذا؟
انه يعني بكل بساطة: زرع اليأس. العبارات براقة والنفس ثوري الى اقصى الحدود واللغة هجاء لكل شيء والاتهامات لا يدانيها احد في الجرأة، لكن المحصلة النهائية هي: لا تتحدثوا عن أي شيء ولا تأملوا في أي شيء، دعكم من العقلانية والأمل، الحال سيبقى مثلما كان ولن يتغير.
مثل هذا الصوت ستجدونه في كل مكان، في المجالس والديوانيات والجمعيات والتجمعات واينما التقى عشرة أشخاص. يتعامل معه رواد المجالس على انه هكذا دوما: لا يعجبه شيء، لقد خلقه الله هكذا. نعم لدينا ميل للتبسيط ورد الأمور الى سياق نتمنى دوما ان يكون طبيعيا، لكن للاسف هو ليس كذلك لاننا نتمنى ذلك فحسب.
ذات يوم كنت في مجلس أحد النواب بعد الانتخابات النيابية بشهور. كان احد هذه الاصوات هناك ايضا. كان رواد المجلس مفعمين بالآمال ويتحدثون بحماسة عن شئون المنطقة ويعرضون الشكاوى لكنهم كانوا ايجابيين: يقترحون الحلول ويقلبونها ويناقشونها على أكثر من وجه ويمضون في تفاصيل دقيقة لكل ما يتعلق بموضوع حديثهم. كان صاحب الصوت النشاز يوالي تدخلاته وسط هذا النقاش، لكن نقاشه كان في اتجاه آخر. يبحثون هم عن حلول فيأتيهم بقصص عن فساد. يحاولون التماس الممكن، فيأتيهم بقصص عن استحالة فعل شيء مع المسئولين. اصواتهم هادئة وصوته عال دوما. نبرة حديثهم محايدة ونبرته اتهامية على الدوام.
قمت الى المطبخ فاذا ببعض الضيوف قد سبقوني هناك. دعاني احدهم الى الشاي وسألني عن أخبار وتعليقات ترددت في الصحف وقتذاك عن المكرمة الملكية للعاطلين. أجبته ان كل ما أعرف حول ذلك هو تصريح لوزير العمل مجيد العلوي ذكر فيه انه يتعين التحقق من أوجه صرف المكرمة. كان صاحبنا قد لحق بنا الى المطبخ وشاركنا الحديث، لكن لدى عودتنا الى المجلس بادر الحاضرين بصوت عال: «يقول لك حتى المكرمة مالت العاطلين سرقوها».
«عدم الدقة» في المعلومات أيضا سمة اخرى في أصحاب هذه الاصوات. عدم الدقة والتلاعب بالالفاظ ليس مرده السهو، فالفارق يبقى جليا بين من يسعى للحقيقة وبين من يلتقط جملة في ثوان وينقلها مغلوطة من دون ان يملك ثواني اخرى ليتحقق منها. هؤلاء في مثل هذه الاخطاء «المدروسة» يعولون دوما على استثارة ما في انفسنا من كراهية لكل انحرافات البشر، لكنهم يداعبون ايضا شيئا من غرورنا في ان نملك «جرأة» في القول. جرأة حرمنا الخوف منها سنوات طوال، لذلك يتردد معظمنا في التصدي لمغالطات تتردد دوما في كل مكان بتأثير الخوف من ان ينعت بالجبان او المهادن. اللغة النارية وبلاغة الهجاء سمات اساسية في اصحاب مثل هذه الاصوات.
أترون محنتنا؟ اكرر هذه المفردة كثيرا، أعرف ذلك لأنني أرى اننا في محنة طالما ان مثل هذه الاصوات تملأ كل المجالس والديوانيات والجمعيات والتجمعات والصحف ايضا. انهم في كل مكان وهي محنة حقيقية عندما يصبح العقلاء مكبلين وفي احيان كثيرة منقادين لمثل هذه الاصوات. ألا ترون كيف ندير جدلنا في كل شيء؟ بلد بأكملها تبدو وكأنها خلت من العقلاء.
هؤلاء هكذا على الدوام وفي كل مكان: تصعيد عندما يفرض المنطق الهدوء. دفع الناس لليأس عندما يثقون في عقلهم. احباط اي مسعى عقلاني في التفكير ببلاغة الهجاء. ترسيخ اسلوب الطفرات والقفز في الفراغ عندما يبدأ الناس في المثابرة والتدرج. اشاعة اليأس عندما يؤمن الناس بقدراتهم الذاتية. تسفيه مراكمة الانجازات الصغيرة عبر استثارة الانفعال دوما. تحطيم الانجازات المتراكمة بمثابرة بخطأ صغير لكنه مدروس بعناية. دفع الناس نحو الشراك عندما يظهر هؤلاء قدرة على تخطيها بحذرهم. الاسلوب هو نفسه: هجاء مستمر، لغة ثورية، جرأة «غير عادية» في الاتهام. جربها النشطاء السياسيون وجربها الجميع لكن حتى اليوم، مازال الكثيرون يمسكون السنتهم عن ان يتصدوا لكل مبالغة وافتعال في القول والنقد والهجاء فتبقى الشجاعة وحدها معقودة لهذا النوع من الهجائين لا للعقلاء. هل عرفتم لماذا اكثر من تلك المفردة: «محنتنا»؟
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 841 - الجمعة 24 ديسمبر 2004م الموافق 12 ذي القعدة 1425هـ