العدد 841 - الجمعة 24 ديسمبر 2004م الموافق 12 ذي القعدة 1425هـ

خرجت من «أبوغريب» وأسمعت صوت المظلومين في البيت الأبيض

شاهدان على فظائع عصر صدام

شهادة حيّة يقدّمها اثنان من العراقيين عن عصر الإرهاب والبطش في ظل النظام العراقي السابق. كانوا ضمن مئات الآلاف الذين دفعوا ثمن الاستبداد لحزب بدأ برفع شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، وبعث الأمة العربية وانتهى بكوارث أنهكت الأمة ووضعت مقدّراتها تحت الهيمنة الأميركية المباشرة والاحتلال العسكري المباشر.

صديقان عملا في التجارة وجمعتهما الصداقة والمحبة على رغم اختلاف المذهب الديني، نزار عبدالرضا جودي، صاحب محل لصوغ الذهب ويعمل حالياً بالصيرفة، والآخر ثامر قاسم يحيى، يعمل في التجارة ويعيشان في منطقة الكاظمية ببغداد. استمعنا حكايتهما المحزنة، وهما يرتلان هموم العراق، سياسة ومجتمعاً وطلب رزق، قبل وبعد صدام، فكان هذا الحوار:

كيف تصفان الوضع قبل صدام وبعده؟

- كل مواطنٍ عراقيٍ أيام صدام كان يحاسب حساباً شديداً وهو يكسب قوت يومه، فاعتقاده أن الدولة لا تترك له فرصة للعيش، فكل مجالٍ ينشط به العمل تتدخل الدولة فيه. وبالنسبة إلى التجار العراقيين إذا حاولوا القيام بأية أنشطة اقتصادية يتدخل أحد المقربين لصدام ليكوّش على الكل، ومن ينافسه يتأذى. فلم يكونوا يتركون المجال للتجار للعمل في أي مجال. وهناك حوادث عدة تمت فيها مصادرة وإعدام وسجن تجار عراقيين، في المرة الأولى ذهب 42 تاجراً من العوائل العراقية المعروفة. وبعدها أي تجارة تنشأ كانوا يلاحقونها، بحيث اضطر التاجر العراقي الأصلي إلى الهجرة من البلد، ويترك لهم المجال. أبسط الأدلة المعروفة في الشارع العراقي ان كارتون السجائر كان التاجر يدفع فيه عمولة 30 دولاراً تذهب إلى عدي ابن صدام، لأنه صاحب احتكاره لاستخدامه سلطته بصفته ابن الرئيس. ومن كان يدخّل سجائر من دون أن يدفع إليه عمولته يدفع حياته ثمناً، أو يحكم عليه بعشرين عاماً سجناً! وهذا مجرد 1 في المئة فقط مما كان يحصل للعراقيين. وإذا أردت ان تستورد فلابد أن تقدم رشوة إلى أحد المقربين لصدام ليضمن لك الموافقة.

كيف كان يعيش المواطن العراقي أيام الحصار؟

- كان الذي يعاني بالدرجة الأولى الموظف والمتقاعد. فأعلى مرتب كان يحصل عليه الموظف، هو 10 آلاف دينار عراقي (ديناران بحرينيان) أي (7 دولارات). أما غير الموظف، التاجر مثلاً يريد أن يغطي مصروفاته، لم نكن نستطيع توفير أية مبالغ، حتى أصحاب الشهادات. مثلاً المعلمة كانت تتسلم 8 دولارات، ولم تكن تكفيها للنقل، وهي ملزمة بالدوام قهراً، وإذا كانت ستستقيل تسحب منها الحصة التموينية، فتضطر إلى إعطاء الدروس الخصوصية لتمشية حياتها. بعد سقوط صدام بدأ الموظفون يتحررون من الفقر، فيمكن للموظفة ان تشتري الملابس، وازدادت القوة الشرائية لديها.

كيف كانت تعيش النساء إذن؟

- في الفترة السابقة كانت النساء يعشن على بيع مصوغاتهن الذهبية وملابسهن، بل ويلجأ الناس لبيع الأبواب والشبابيك والممتلكات المنزلية. تصوّر حتى الحنفية مع انها لم تكن لها قيمة ولكن لأن الإنسان يريد ان يعيش يوماً بيوم.

أما بالنسبة إلى من اعدمهم صدام فإن عوائلهم تعيش الفقر ويمنع على ذويهم العمل بأي عمل حر، وممنوع عليّ كتاجر أن أساعده. حتى علماء الدين كانت تتم محاسبتهم على دفع الخمس ويتم اتهامهم بأنهم يساعدون أطرافاً معادية للعراق. فيتم تسليم الخمس خفية.

بالنسبة إلى المتقاعدين، في السبعينات كان المتقاعد يعيش حياة جيدة. قبل مجيء صدام للحكم كانت تخصص للمتقاعد أرض، ومنحة عقارية للبناء وشراء سيارة بالتقسيط المريح، بما يتيح له العيش مرتاحاً في فترة الشهر والتوفير أيضاً. أما بعد صدام فأصبح يعيش براتب معدوم، الدولار يساوي 1500 دينار، بينما المتقاعد يتسلم مبلغاً بالكاد يكفي لشراء بيضة واحدة. فالأكثر تضرراً هم المتقاعدون المسنّون. وما أصعب أن ترى مدرسك الذي كان يعلّمك، يبيع علب سجائر ويلبس بيجامة نوم في الشارع، ولا يكفي دخله لشراء نصف وجبة غذاء. في الوقت الذي كان يصرف فيه صدام المبالغ الطائلة على بناء القصور وشراء الذمم.

فقط الذمم بالداخل؟

- بالداخل والخارج، دفع أموالاً لبعض الصحافيين خارج العراق، (ذكر بالاسم أحد الإعلاميين المشهورين) كما كان يدفع للاغتيالات، فدفع 12 مليون دولار لاغتيال صحافي كندي لأنه تجرأ وكتب كتاباً ضد صدام وفساد نظامه، وهي حادثة معروفة لدى المثقفين العراقيين. حتى تركيب «الرسيفر» كان يؤدي إلى السجن والاعتقال. حتى الموبايل، ومن اشتروا الثريا اعتقلوا وأعدموا بدعوى انهم عملاء. ولم يكن يسمح لنا الاطلاع على غير القنوات العراقية، إذا بلّغ عنك أحد أعضاء الأمن الاستماع إلى «مونت كارلو» أو «لندن» يعتقلونك لأنك تستمع إلى إذاعات معادية!

ماذا عن المراسلين من الخارج؟

- لم يكن هناك مراسلون إلا في آخر سنوات عهد صدام، وكانت هناك نقاط وضوابط. من المراسلين الحاليين للفضائيات من كان منهم يعمل بالمخابرات العراقية سابقاً. والمشكلة ان الفضائيات تركز على تغطيات معينة، فلماذا لا تغطى التطورات الإيجابية في العراق. المدارس والدوائر التي يتحسن أداؤها... فخلال سنتين أخذت تتحسن إلى الأفضل. الإعلام العربي يركّز فقط على التفجيرات ولكننا كمواطنين نعيش حياة أفضل. اليوم المواطن يمكن أن يكسب خلال يومين ما يكفيه لأسبوع. الوجه الإيجابي للبلد مغيب في الإعلام العربي.

يلتقط خيط الحديث ثامر: الإعلام العربي لو كان يغطي ما يجري فعلاً على الأرض لتابعناه. هناك تضخيم ومبالغة في الأخبار . نحن نعيش ونعرف الوضع، بينما الفضائيات العربية تصّور الوضع كأنه عالم آخر.

أنا سني أصلي من الموصل ونزار شيعي من بغداد، عشنا عشرين سنة لا نعرف مذهب بعضنا الآخر، ومازلنا صديقين. بل لنا أصدقاء مسيحيون. الارهابيون الذين قاموا بعمليات إرهابية هم من خارج العراق، مهما كان فإن العراقي ليس من النوع الذي يفجّر نفسه أو يقتل أخاه. العراقي شخصٌ يحب الحياة ولا يمكن أن يقدم على قتل نفسه. هذه عمليات دخيلة على تاريخ وثقافة العراق.

من الذي يساعدهم؟

- العرب الذين يرسلونهم إلى العراق، لابد أن يتوقف الدعم عنهم، فهناك أموال طائلة تتسرب إلى العراق من الخارج. الروح رخيصة عند هؤلاء، وأولئك يدفعون إليهم الأموال.

قصة الجبالي

عرفنا أن يدك قطعها صدام بقرار من مجلس قيادة الثورة، كيف عشتم بعد هذه الكارثة؟

- أجاب جودي: نحن تسعة أشخاص حكموا علينا بقطع اليد. بعد تنفيذ قطع يدي كنت ممنوعاً من العمل، وكان فقط صديقي ياسر يعمل... وهناك آخرون حكموا بالإعدام (نادر الجبالي) أو 15 سنة بنفس التهمة، وصودرت أموالهم المنقولة وغير المنقولة.

ولأن الجبالي كان من المقربين للملك حسين فتوسط له فأطلق سراحه. أما أحمد إسماعيل (كردي) فحكم مرتين بالإعدام، وأصدر صدام عفواً عاماً وبضغط من الأمم المتحدة فأنزل الحكم إلى المؤبد. ومرة أخرى صدر عفو بمناسبة ميلاد صدام، فأطلق سراحه، كان مشهوراً بالتجارة في الدواجن.

أضاف ثامر: كانت هناك فرّامات تفرم الجسد البشري في الاستخبارات العسكرية بالكاظمية وهناك من قطعت آذانهم، وكذلك اللسان. هناك قاطع خاص بالسجن اسمه «قاطع المتهجمين على صدام». وكذلك طريقة كسر اليدين بالطابوق، وكانوا ينتقمون ممن ينتقد الرئيس بإعدام عائلته...

جيراني خمسة في سنة 1980 اخذهم الأمن وانتهت أخبارهم، ولم يعرف أهلهم هل هم أحياء أم أموات... واكتشفنا في التسعينات انهم اعدموا، وبعدها بـ 24 ساعة أقيمت على أرواحهم الفاتحة... عدي ابن صدام عنده نمر كان يجوعه ويطلقه على المعارضين . وكانوا يأتون بالضحية في فناء السجن ويطلقون عليه الكلاب الجائعة لينهشوا لحمه، وهو منظر شاهدته بنفسي.

هناك فظاعات لا تصدق، لكنها هي الواقع الذي عاشه الشعب العراقي. ونحن مثلاً دفعنا أجور عملية قطع أيدينا (50 دولاراً)... كذلك أعطيناهم رشا لإبر التخدير، وإلا كانوا سيقطعون أيدينا من دون تخدير.

أما العسكريون الهاربون الذي يتم اعدامهم فيأتي الأمن بالرصاصات الفارغة إلى أهلهم ليدفعوا قيمتها، ايدينا - 7 أيدي - أخذت إلى صدام حسين مع الفيلم الذي تم تصويره ليتأكد بنفسه من تنفيذ أحكامه.

وكيف بقي الفيلم ولم يتخلصوا منه؟

- أحد العاملين بالإعلام حصل على الفيلم وأعطاه مسئول الإعلام الأميركي في العراق بعد سقوط صدام. وأخذ هذا المسئول يبحث عن الضحايا الذين تظهر صورهم في الفيلم ولما سمع عني جاء إلى الكاظمية والتقاني.

وما اسم هذا الأميركي؟

- اسمه «دان نورث» وقام بتصوير فيلم اسماه «تذكرّوا صدام»، وصوّره في سجن الأمن العام وأبوغريب، وصوّرنا نحن السبعة في الأماكن الأصلية والانفرادية. وفي ابريل/ نيسان 2004م ذهبنا إلى الولايات المتحدة الأميركية وبقينا في تكساس، هيوستن 50 يوماً لتركيب أيدٍ اصطناعية، والذي قام بالعملية اثنان من أكبر الجراحين الأميركيين. وعدنا إلى واشنطن وقابلنا الرئيس بوش في 25 مايو/ أيار ورحب بنا ترحيباً كبيراً وأظهر اهتمامه وعنايته بنا وقال: «هناك دافعٌ يدفعني من أجل مساعدة الشعب العراقي». وكانت هناك تقارير يومية في المحطات التلفزيونية الأميركية «CNN، فوكس وABC» لموضوعنا وقابلنا كولن باول وولفوفيتز وشخصيات بالكونغرس والبنتاغون.

هل كنتم تحلمون بيومٍ تتخلصون فيه من صدام؟

- كان الخلاص من صدام خيالاً. كان هو يعتقد أنه سوف يعيش ألف سنة، هذه الفترة من الجبروت والبطش، والله سبحانه هو الذي هزّ كيانه، واليوم الذي سقطت فيه بغداد بالمناسبة هو اليوم نفسه الذي استشهد فيه السيدمحمد باقر الصدر (9 ابريل). أما الذي أصدر الحكم ضدي فهو فوزي الناصري ابن عم صدام، ومدير الأمن والمشرف على التحقيق سبعاوي الأخ غير الشقيق لصدام...

لو كنت تأتيني أيام صدام تسألني عن يدي المقطوعة لقلت انها بسبب حادث سيارة، ولكني خرجت من أبوغريب إلى البيت الأبيض لأشرح للعالم كله قضيتي. تصوّر أن أحد العراقيين، قال: اتمنى ان أعيش في تركيا... حبسوه 20 سنة.

طن حبر ولوري ورق!

سمعنا عن العملة الورقية التي لم تكن لها قيمة في العراق... من كان وراءها؟

- حسين كامل (وزير التصنيع العسكري) كانت لديه مطبعة خاصة، سألوه مرة عن جسر من طابقين كيف بنوه. فأجاب: بنيناه بلوري ورق وطن حبر. كان يطبع أوراقاً ويشتري بها مواد أولية ويدفع الأجور. ساجدة زوجة صدام كان لديها مطبعة أيضاً. الاقتصاد تحطم بسبب عائلة صدام ، حتى سعدون حمادي كان يقول إننا لا نطبع عملة إضافية، وإنما نوفر للمواطن حصة ونعطيه ملابس ليبقي الدينار في مكانه، فأحيل إلى التقاعد.

حسين كامل المجيد، وطبان وسبعاوي هؤلاء هم المحيطون بصدام، لم تكن لديهم شهادات، تعرف كيف تعمل العصابات. كان النظام يعيش على خلق الأزمات الداخلية والخارجية.

أنتما من مدينتين مختلفتين (بغداد/ الموصل) ومن مذهبين مختلفين، فما قصة هذه الصداقة الجميلة؟ أجاب ثامر بنبرة يملؤها الفخر:

- نعم، ولدينا أصدقاء مسيحيون أيضاً.

هذا هو الوضع في العراق... أنا سني في الكاظمية منذ 20 عاماً، غالبيتها شيعة، انتخبوني رئيس النادي. والدتي تزور الامام الكاظم وكربلاء، العراقيون هكذا... لو تقفون لرؤية الزائرين لمقام الكاظم ستجدون نصفهم سنة، وبعضهم يصلّون على التربة. أنا وزوجتي ندخل لسماع القراءات الحسينية. زوجتي وزوجة نزار أكثر من صديقتين. زوجة أخي الكبير شيعية. شربنا وأكلنا في بيوت بعضنا بعضاً.

أليست الحكاية غريبة؟

- لا، هذه هي الحال العامة للغالبية. تجدون التعايش في كل مكان، لكن الذي أثّر هو هذه الموجة المقبلة من وراء الحدود.

التسميات لدينا بين عمر وعثمان وعلي وحسين لا نفرق فيها. هذه أول مرة، حاولوا التفرقة بين كردي وعربي، فلم يفلحوا، بعدها سني وشيعي فلم يفلحوا، الآن أدخلوا حرب الإرهاب.

أليست هذه مبايعة للأميركان؟

- لا، الرضا عن الوضع الحالي والرغبة في تطوره لا يعني مبايعة الأميركان. هي حال مؤقتة، الآن الشرطة والمرور والحرس الوطني هم الذين يوفرون الأمن للبلد. هؤلاء يخدمون البلد، المشوار الذي يأخذ 5 دقائق بداية السقوط كان يأخذ ساعتين، بعد عودة المرور العراقي انتظم السير. لماذا يهربون من مواجهة الأميركان ويقاتلون الحرس الوطني ويقتلون الشرطة العراقية والمرور وموظفي الحكومة والعلماء ورجال الدين، ثم ان العالم العربي كله مجمع الآن على مواجهة الإرهاب والإرهابيين وليس العراق وحده

العدد 841 - الجمعة 24 ديسمبر 2004م الموافق 12 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً