لم نكن نعلم أن عرفات مكروه عربياً أكثر مما كان مكروهاً اسرائيلياً، وأنه مكروه بين المحيطين به أكثر مما هو مكروه عند شارون. زوجته سهى الطويل قالت قبل يوم من رفع الأجهزة عنه: «يريدون أن يدفنوه حياً»، ولأن الحديث دار حول مساعيها للحصول على «التركة» و«الاستحواذ» على الميراث، فإن أحداً لم يصغِ لمقالتها.
أحد الكتاب المغاربة كتب حينها عن نظرية التسميم في «الحياة»، وختم مقاله بكلام للاسرائيليين مفاده ان ليس من مصلحة الفلسطينيين كشف الحقيقة! الكاتب المغاربي أكد عدم ميله إلى تصديق «نظرية المؤامرة» الرائجة في الأسواق العربية، ولكن الشكوك لا تتركه يصدق ما يقال رسمياً في مثل هذه الملابسات الغامضة، وخصوصاً مع اصرار الصحافة الاسرائيلية في مانشيتاتها الشامتة المستبشرة على ان رحلة عرفات ستكون الأخيرة، وأن لا علاج مطلقاً ينتظره العجوز العليل.
زوجته سهى ذهبت إلى باريس، لتظهر مرة أخرى في صورة من يريد الاستحواذ على التقرير أيضاً، وذهب وراءها ابن اخت عرفات، ناصر القدوة، على أمل أن يكشف السر، مطالباً بتقرير وفاة خاله، مادام الفرنسيون يصرون على عدم تسليم التقرير إلى أحد غير عائلته. وسواء تسلمه أم لم يتسلمه، فان الصمت ظل سيد الموقف، فالقضية كانت محسومة سلفاً: «ليس من مصلحة الفلسطينيين معرفة سبب وفاة قائدهم التاريخي»!
طبعاً خلفاء عرفات كلهم يقولون انهم سيسيرون على نهجه، وانهم متمسكون بسيرته «الوضاءة»، وهو قول مخادع لا يصدقه الواقع، فعرفات بعد اليوم لن يبقى منه غير الذكريات على زمان ماضٍ وغير جميل. والدليل هذا النشاط الذي دبّ في أوصال المنطقة، وشجّع شخصاً بارداً جداً مثل طوني بلير على زيارة هذه المنطقة الملتهبة والملطخة بالدماء.
الكلّ أيها السادة كان يريد أن يدفن عرفات حياً، ليقرأ الفاتحة على قبره وينصرف لتجارته، بمن فيهم خليفته أبومازن الذي بدأ بالاعتذار إلى الكويت عن الخطيئة الكبرى لعرفات يوم وقف مع صدام حسين في غزوه الكويت الشقيق. ترى لو كان عرفات حياً هل كان سيعتذر إلى الكويت على خطيئته؟
تلاحظون أيضاً هذا التحريك الاقليمي النشط للساحة بما يدخلنا عصر الجوائز الكبرى. مصر أقدمت على تقديم جائزة «الكويز» الاسبوع الماضي قبل أن تقام الأربعين على روح عرفات، وهو الاتفاق الذي عارضه حتى مؤيدو التطبيع مع «اسرائيل» في مصر، لأنه يمنح تل أبيب فعالية اقتصادية أكثر.
الأردن قدم جائزته أيضاً أمس (الخميس)، بتوقيع اتفاق التبادل التجاري والاقتصادي مع «اسرائيل»، الذي يضمن إعفاء 60 في المئة من إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى الأردن من الجمارك! ترى لو كان عرفات حياً هل كانوا سيوقعونها؟
عرفات دفن حياً كما قالت زوجته، وسر «اغتياله» سيبقى مطموراً، ولن ينشر التقرير إلا بعد خمسين عاماً، نكون نحن أيضاً مضينا تحت التراب، حينئذ سيجلس بعض أحفادنا، ليقرأوا صحيفة الصباح: «سرّ موت عرفات»، فيسألون: «ومن يكون عرفات»؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 840 - الخميس 23 ديسمبر 2004م الموافق 11 ذي القعدة 1425هـ