أكد السيّد محمد حسين فضل الله، أن أميركا لا تفكر بأية خطة جدية للإصلاح أو لحماية الحريات في العالم العربي والإسلامي. ووضع سماحته الحرب التي تقودها بعض الدوائر الغربية على الإعلام العربي الإسلامي في سياق الهجمة التمهيدية التي ستنطلق من بعدها الهجمة السياسية الأكبر على المنطقة. وأبدى خشيته على القضية الفلسطينية هذه الأيام «أكثر مما كنا نخافه عليها في السابق، لأن السعي يتركز الآن على خلخلة الوضع الفلسطيني». جاء ذلك رداً على سؤال في ندوته الأسبوعية عن مدى الاهتمام الأميركي بعنواني «الإصلاح» و«الحريات» بعد فوز بوش بولايته الثانية؛ إذ أجاب:
«لا تمثل الحريات السياسية أو الفكرية وكذلك مسألة الإصلاح في العالم العربي والإسلامي أية أولوية للإدارة الأميركية بحلتها الجديدة القديمة، كما لم تكن كذلك في ولاية بوش الأولى، وإن كان الحديث الأميركي عن هذه المفردات يتوالى ويتصاعد، لأنّ هذه العناوين هي جواز سفر للمشروع الأميركي المستمر بهدف السيطرة على المنطقة وإخضاعها ونهب ثرواتها وكسر إرادتها لحساب «إسرائيل» وشروطها في التسوية.
ولذلك فإن ما نسمع عنه أو نتابعه من دراسات صادرة عن مراكز أبحاث على صلة بالإدارة الأميركية، وخصوصاً لجهة حثها على دعم من يسمونهم «المعتدلين المسلمين» بوجه «الراديكاليين في العالم العربي والإسلامي»... هي دعوات تستطبن السعي إلى إشعال فتن داخلية في المنطقة سواء تلك التي يُثار فيها العنوان المذهبي، أو تلك التي يتحدث فيها هؤلاء بصراحة واضحة عن ضرورة إشراك المسلمين في الحرب على ما يسمى «الإرهاب»، ليكون ذلك بمثابة المساهمة المجانية لخدمة المشروع الأميركي الإسرائيلي من خلال الفتن الداخلية التي يسقط فيها الهيكل العربي والإسلامي على رؤوسنا، فينال البعض منّا على مستوى الأنظمة أو غيرها قسطاً من المديح من الإدارة الأميركية لمشاركتها في حربها وهمومها ومشكلاتها، أو ليحصل على شيء من المخصصات التي تقدمها أميركا من موازنتها لينشط أكثر في تنفيذ ما يُرسم له من أهداف تحت هذه العناوين.
ولذلك، فإننا نطل على مرحلة أخرى من المراحل الخطيرة والصعبة التي تتواصل فيها الحرب على الإسلام نفسه، ليبقى المسلمون والعرب مجرد أرقام في لعبة الخداع الأميركية المتواصلة التي يتصور فيها البعض أن أميركا ستكون المنقذ لهذه الشريحة أو تلك، أو في مواجهة هذا النظام أو ذاك، وليكتشف الجميع وربما بعد فوات الأوان أن المسألة هي مجرد استخدام هؤلاء أو أولئك كجسر بشري أو كأدوات سياسية لحساب أميركا ومشروعها في المنطقة.
ومن هنا نشهد هجمة جديدة على الإسلام تصل إلى مستوى أن بعض مراكز الأبحاث هذه تحاول أن ترسم المستقبل الإسلامي من خلال سعيها إلى المشاركة في رسم «برنامج عقائدي» للمسلمين يأخذ في الاعتبار المصالح الحيوية للإدارة الأميركية التي تريد إشراك بعض المسلمين في ما تسميه «حرب الأفكار»، والدخول إلى برامج المدارس الإسلامية بحجة الإصلاح و«إحداث تغيير ديمقراطي» بينما يكون الهدف سياسياً بامتياز. وقد قرأنا كيف أن إدارة بوش تمنع منذ اكتوبر/تشرين الأول الماضي صدور التقرير الدولي الثالث عن التنمية البشرية في العالم العربي لمجرد أنه يكشف في بعض جوانبه أهداف ومخاطر الغزو الأميركي للعراق، وممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة. ولذلك نحن نعتقد أن أميركا لا تفكر بأية خطة جديّة للإصلاح أو حماية الحريات في العالم العربي الإسلامي، لأنها لاتزال تمارس عملية استخدام عناصر خطتها السابقة للسيطرة على مواقع أخرى في هذا العالم بمزيد من التدليس والغش والخداع، وبمزيد من استخدام عناوين الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية لتحقيق أحلامها الامبراطورية، ولذلك فهي تعمل على إطلاق يد «إسرائيل» أكثر لاغتيال المزيد من الفلسطينيين في الوقت الذي تفسح فيه المجال للحديث عن حلول قادمة للمسألة الفلسطينية، وتوّجه المزيد من الاتهامات والتهديدات لسورية وإيران كي تضمن عدم معارضتهما أو حتى مشاغبتهما حيال المرحلة الثانية من مراحل الخطط الأميركية في العراق وفلسطين في أعقاب فوز بوش بالولاية الثانية. ومن هنا فنحن نضع الحرب التي تقودها بعض الدوائر الغربية على الإعلام العربي والإسلامي، وخصوصاً ما يتعرض له تلفزيون «المنار» والتي دخلت فيها الإدارة الأميركية بشكل مباشر، في سياق الهجمة التمهيدية التي ستنطلق من بعدها الهجمة السياسية الأكبر على المنطقة وبضغوط أكبر وربما بخطوات ميدانية أصعب.
ولهذا نحن نخاف على القضية الفلسطينية وفي هذه الأيام بالذات أكثر مما كنا نخافه عليها في السابق، لأن السعي يتركز الآن على خلخلة الوضع الفلسطيني وزعزعة الصمود الميداني الذي تحول إلى صمود سياسي، ليصار إلى الحديث عن دولة فلسطينية قادمة من دون أن تحمل أيّ أُسس للدولة، وفي ظل شروط شارون التي وقعها بوش مسبقاً، إذ لا عودة لحدود العام 1967، ولا تطبيق لقرار حق العودة ولا تفكيك للكتل الاستيطانية في الضفة التي يريدها شارون أن تبقى إلى الأبد... بل إلى المزيد من القبض على القرار الفلسطيني ودفعه للاستسلام تحت عنوان السلام.
إن أميركا التي لا تني ترفع شعارات الحرية والديمقراطية والإصلاح كمطالب ملحة وأهداف حاسمة لها في المنطقة، هي أميركا نفسها التي تستخدم كل الوسائل والأساليب لإسقاط هذه الشعارات، لأنها مع استمرار الظلم في المنطقة على جميع المستويات، وهي مع استمرار الدكتاتوريات في المنطقة، وهي تعمل على رفدها سياسياً واستخبارياً في مواجهة دعاة الإصلاح، وهي مع الظلم الإسرائيلي الذي لا يقف عند حدود والذي يستخدم خطة الفصل العنصري لضمان السيطرة أكثر على الضفة، وتفجير حتى خريطة الطريق من الداخل، وتريد لشارون أن يدُمِّر المستقبل الفلسطيني كلّه على أساس «خضوع الفلسطينيين لقوانين اللعبة»، وقوانين اللعبة في القاموس الأميركي الإسرائيلي تقوم على أساس أن يهزم العرب بالجملة في الحرب على ما يسمى بالإرهاب، ليدفعوا جميعاً الثمن من ثرواتهم وقراراتهم وليدفع الفلسطينيون الثمن الأكبر والأفدح. ولذلك فإننا كأمة مطالبون بوعي كل مخاطر المرحلة، ورصد الخطط القادمة بلبوس السلام والإصلاح باعتبار السم الذي يوضع في الدسم، والالتفات إلى أنه لا يمكننا أن نكسر المشروعات القادمة أو نسقطها إلا من خلال الوحدة الداخلية التي تذوب فيها الأطر المذهبية والسياسية والحزبية لحساب القضية الكبرى، على أساس أننا مهددون على مستوى المصير وليس على مستوى المرحلة فقط
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 840 - الخميس 23 ديسمبر 2004م الموافق 11 ذي القعدة 1425هـ