لا يُعرف الكثير عن حياة الفارابي. فكتب الأعلام والسير تشير إلى أنه ولد في فاراب في العام 257هـ (870م) من أب تركي وأم فارسية. ونشأ في بيت فقير. وشب على العلم والمعرفة واشتغل في القضاء في فاراب. ورحل إلى بغداد، وهو في الاربعين من عمره وتعلم قراءة وكتابة العربية. وهناك درس الفلسفة باشراف متى بن يونس (أبوبشر) والنحو على يد أبي بكر السراج. ثم ارتحل إلى حران ودرس المنطق على يد يوحنا بن حيلان (الحكيم النصراني). وعاد الى بغداد وألف معظم كتبه. ثم ارتحل إلى دمشق هرباً من الفتن والاضطرابات، وتوجه إلى مصر وعاد إلى بلاد الشام. واتصل به سيف الدولة الحمداني في حلب. وحين بلغ الثمانين من عمره سار معه إلى دمشق وتوفي هناك برفقة سيف الدولة في العام 339هـ (950م). وعرف عنه حبه للموسيقى وزهده في الدنيا وميله إلى العزلة وابتعاده عن المناصب وقبوله بالحد الأدنى من المعاش (أربعة دراهم في اليوم) وترفعه عن الشطط السياسي والرفاهية الاجتماعية.
هذه الخلاصة تبدو متواضعة لشخص أطلق عليه «المعلم الثاني» نسبة إلى لقب أرسطو (المعلم الأول). وأسهم في تأليف عشرات الكتب، منها موسوعة عن الموسيقى. ويقال عنه انه اخترع آلة القانون وكان يجيد العزف عليها إلى درجة ان ابن كثير في تاريخه اعتبره عازف موسيقى ولم يذكر عنه دوره في التأليف الفلسفي. فالفارابي الذي لعب دوره المميز في شرح وتفسير الكتب الفلسفية واعتبره ابن سينا أستاذه غير المباشر في تعلم قانون المنطق تبدو سيرته الموضوعة عنه أقل بكثير من تأثيره الخاص على جيل من المفكرين. فالسيرة الخاصة مهمة لكشف الظروف التي مر بها الفارابي الا أن الأهم دور البيئة الثقافية - السياسية التي صنعت شخصيته ورسمت حدود فكره ودفعته قبل سنوات من رحيله إلى الجلوس والبدء في كتابة آراء أهل «المدينة الفاضلة».
الاجابة عن سؤال: «لماذا فكر الفارابي في الكتابة عن المدينة ومقارنتها بغيرها وتحديد مواصفاتها وهيكلها التنظيمي وتراتبها الاجتماعي» لا يمكن التقاط دوافعها من دون النظر الى المحيط الذي جرت فيه أيام هذا الشخص. وحتى يفكر كاتب في مسألة لابد ان تكون قد اجتمعت لديه مجموعة عوامل أملت عليه شروط الكتابة وحددت له سلفاً منهج البحث. فالهدف لابد أن يرتبط بالمحيط والظروف والبيئة ولا تكفي الاجابة الموصوفة بأنه تأثر بكتاب افلاطون عن «الجمهورية». فافلاطون أعطاه البناء الدرامي وأفرد له مساحة للتأمل والتفكير. الا ان ذلك الجانب النظري لا يكفي للاجابة عن السؤال. وحتى تكتمل عناصر الموضوع لابد ان هناك سلسلة أسباب تدافعت حتى تشكلت في ذهنه صورة المدينة التي حلم بها أو أرادها ان تكون ولم تكن ولن تكون.
عاش الفارابي بين النصف الثاني من القرن الثالث الهجري والنصف الأول من القرن الرابع الهجري (التاسع والعاشر الميلاديين)، وفي تلك الفترة شهدت الديار الإسلامية الكثير من الاضطرابات والتقلبات وشهدت بدء هبوط الدولة العباسية وانهيار منظومة المعتزلة ونشوء دويلات سياسية على هامش دولة الخلافة وظهور حركات انقسامية في أطراف الدولة وقيام منظمات تمردت على التقاليد وازدهرت الانتفاضات وسادت العصر روح الشك وبرز الالحاد في أكثر من مكان وعلى أصعدة ومستويات مختلفة.
هذا الكم من التناقضات التناحرية دفعت الفارابي الفيلسوف إلى البحث عن الجمع بين المتفرقات وشجعته على المزج بين الثقافات ومحاولة ردها الى أصل واحد. فالفارابي ليس مؤرخاً ليسجل حوادث زمانه وليس باحثاً في السياسة يرصد الوقائع ويلاحق تطورات عصره. الفارابي فيلسوف ولأنه قرر ذلك مال إلى وصف زمنه فلسفياً. فهو في كتاباته لم يؤرخ زمانه وانما وصفه فلسفياً، ولذلك لم يلجأ الى رصد الوقائق وتسجيل الحوادث كما يفعل المؤرخ وانما اتجه الى ابتكار منهج هو أقرب إلى فلسفة التاريخ. فهو ينطلق من محيطه ليقول ما يريده في الضد من وقته. والمدينة التي تخيلها أرادها أن تكون على النقيض من مدن عصره وزمانه. فهي مدينة من عالم آخر تنتمي إلى زمن آخر.
تحدث الفارابي عن مدينة «فاضلة» في محيط غير فاضل. وهاجم الفارابي سلسلة أوصاف من المدن الراهنة ليعطي صورة واقعية قريبة من مخيلته عن مدينة غير موجودة ولكنها تحمل مواصفات مضادة لمدن عصره. فالفارابي في كتابه تحدث عن خمسة أنواع من المدن وأعطى ثمانية أوصاف لها، فهناك الضرورية والنذلة والفاسقة وغيرها... وكلها غير فاضلة. فالفاضلة لا وجود لها في عالمه ولكنها متخيلة وهي تدرج في إطار أهداف الانسان السوي والصالح. ولأن هذا الانسان غير موجود في عصره فإن المدينة لا صلة لها بواقعه الزمني البائس والمزري.
الفارابي إذاً فلسف وقته مستخدماً النسق الفكري الذي توصل اليه بعد 70 عاماً من الترحال والبحث والتفكير والكتابة. وكتابه عن المدينة هو خلاصة تفكيره اذ ألفه في شيخوخته وبعد بلوغه السبعين. ففي تلك الفترة تبلورت عنده فكرة المدينة، فقام بهندسة منظومتها معتمداً على جسم الانسان. فالمدينة في هيكلها وتراتبها تشبه البدن. فالبدن مراتب ومركزه القلب والمدينة مراتب ومركزها الرئيس. والرئيس الحكيم هو قلب المدينة. والرئيس الأول للمدينة الفاضلة هو الإمام.
كل هذه الخلاصات لها دلالات فكرية وهي قريبة من عصره وهي خلاصة تجربته المباشرة وإن جاءت المدينة على صورة «جمهورية» أفلاطون ومثالها. فالصورة أخدها من أفلاطون، أما مادتها فهي من مصدر آخر ليس بعيداً عن محيطه وبيئته وزمنه.
وبما أن وقائع التاريخ ومجراه أنتجت دويلات لا تنتمي إلى المثال الذي يريده قرر الفارابي الجلوس وكتابة نقده السلبي لسائر المدن بحثاً عن مدينة فاضلة لا وجود لها سوى في مخيلته. فكيف توصل الفارابي إلى هذه القناعة، ولماذا قرر كتابة سيرة مدينة غير موجودة؟ الجواب لا نجده في تاريخ الفارابي وإنما في تاريخ الفترة التي عاصرها ولاحظ تناقضاتها وانحطاطها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 840 - الخميس 23 ديسمبر 2004م الموافق 11 ذي القعدة 1425هـ