يتواصل في الخبر اليومي الموت العراقي. ففي كل يوم تتوارد الانباء عن مقتل عشرات، واحياناً عن موت مئات العراقيين الذين يقتلون، ليس في بؤر الصدام والتوتر فقط كما هو الحال في مدن مثل النجف والفلوجة والرمادي، بل في مدن عراقية كبرى مثل بغداد في الوسط والموصل في الشمال والبصرة في الجنوب. ويتجاوز الموت العراقي اليومي مستوى الصدامات الناتجة عن وجود الاحتلال إلى نوع آخر من الموت تسببه الانفجارات الناجمة عن سيارات مفخخة او عبوات ناسفة، يزرع متفجراتها بعض المنتسبين إلى «المقاومة العراقية»، وآخرون من خفافيش الليل الراغبون في استمرار مسيرة القتل العراقي، والنتيجة في الحالين تكاد تكون واحدة، اذ غالبية الضحايا من العراقيين ولاسيما الاطفال والنساء، والاقلية من جنود الاحتلال.
وينتمي إلى الموت العراقي نوع آخر يضاف إلى ما سبق، وهو موت تكشف عنه المصادفة والمفاجآت من خلال العثور على جثث لعشرات العراقيين، جرى قتلهم وتصفيتهم في ظروف غامضة، وانكشفت حالات من هذا النوع أخيراً في مدينة الموصل الشمالية، وهي حالات تنتمي إلى ظاهرة المقابر الجماعية التي عرفها العراق في ظل النظام السابق.
وثمة نوع آخر من الموت العراقي، يمثله الاغتيال والموت ذبحاً، وترتكبه مجموعات مجهولة بعضها يوصف بالانتماء إلى «جماعات المجاهدين»، وبعض آخر هو من عصابات الابتزاز والسلب التي كانت بين ثمار الفلتان الامني نتيجة ظروف الاحتلال، واحد اهم نتائج سياساته في اطلاق المجرمين، او عدم متابعتهم بجدية وحزم، وخصوصاً ان الاحتلال بما خلفه من صعوبات اقتصادية وظروف اجتماعية، ساهم في خلق بيئات مواتية للقيام بجرائم الخطف والابتزاز بهدف الحصول على المال، وتسبب هذا النوع من انواع الموت العراقي بقتل عراقيين وعرب واجانب، وبعضهم تمت تصفيته بأبشع اشكال الموت.
وكما تتعدد انواع الموت العراقي، فإن الذين يموتون بفعله يتعددون ويتنوعون، وادت عمليات القتل في العراق إلى موت أكثر من مئة الف عراقي خلال اقل من عامين من عمر الاحتلال، ولايحتاج الامر في هذا الجانب إلى قول انهم كانوا موزعين على كل العراق بمدنه وقراه، وهم موزعون على العراقيين بأديانهم وقومياتهم وطوائفهم، وهو حال الاجانب والعرب الذين قتلوا في العراق من حيث تعددهم الديني والطائفي، يضافون إلى من قتلوا من جنود الاحتلال الاميركي - البريطاني الذين يتحفظ المحتلون على اعلان ارقامهم الحقيقية، فيما تذهب الارقام المعلنة إلى انهم لايتجاوزون الالفي قتيل من الاميركيين والبريطانيين وجنود الدول الحليفة.
وظاهرة الموت العراقي في تجسيدها الراهن، بدأت مع انطلاق الحرب على العراق في مارس/آذار من العام 2003، عندما اندفعت القوات الاميركية - البريطانية في حربها الشاملة عبر عمليات القصف الجوي والبري، واجتياح المدن والقرى، وتسببت العمليات العسكرية في قتل وجرح آلاف العراقيين وبينهم اعداد كبيرة من المدنيين، وكانت تلك العمليات في جانب منها التطور الاهم في كسر حاجز خوف العراقيين من الدخول في لعبة الموت والتصدي للقوات المهاجمة، او شن الهجمات المرتدة عليها في عمليات مقاومة، كانت عفوية غير منظمة في غالبية الاحيان، قبل ان تنتقل إلى حالات منظمة ومركزة لاحقاً على نحو ما يشير اليه واقع الحال في عراق اليوم.
وبطبيعة الحال، فقد ادى واقع الاحتلال ومواجهات قواته مع العراقيين إلى اجواء من الفلتان الامني، وسع دائرة الموت في العراق من خلال انضمام عناصر وقوى جديدة إلى تلك الدائرة، ويكون بعضها مرتبطاً بالخارج على خط القتل والدمار إلى الحد الذي اوصل الموت إلى حدوده الراهنة.
واذا كان سقوط اعداد من جنود الاحتلال، هو بين النتائج المباشرة للموت العراقي، فتبين تلك النتائج، ان موت العراقيين يؤدي إلى تدمير قدرات العراق، ويزيد معاناة شعبه، وهو يساهم في تعميق الانقسامات في التكوين الديمغرافي المتنوع، ويذهب بالعراقيين إلى مايتجاوز اسوأ ايام القتل الذي عرفوه في تاريخهم الحديث كله، وهي نتائج لاتقارن بما يلحق المحتلين في العراق من خسائر، وهذا لايعني ان على العراقيين التخلي عن مقاومة الاحتلال بما فيها القوة المسلحة، والتي هي حق طبيعي تحفظه كل الشرائع والقوانين السماوية والوضعية، بل ان ذلك يتطلب تنظيم تلك المقاومة وتعميمها وتركيز اهدافها في التأثير على الاحتلال وقواته فحسب، وهذا من شأنه ليس فقط ان يخفف الموت العراقي، انما ان يضع له حداً نهائياً من خلال انهاء الاحتلال الاجنبي الذي افتتح مسيرة الموت، وادت سياساته وممارساته إلى توسيعها إلى ابعد الحدود
العدد 839 - الأربعاء 22 ديسمبر 2004م الموافق 10 ذي القعدة 1425هـ