ألغى الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش عقل السياسة لصالح جنونها. كان ذلك المنهج قد أتعب حوافّ الدولة الأميركية فضلا عن مركزها. وانزلقت مشاريعها نحو التحدّي لكسر عظم الخصم من دون تسويات.
هذا الجموح ختم به بوش ولايته الثانية، لكنه أيضا خالفه على استحياء قبل أن يرحل. فالهجوم على العراق، وإلغاء الدولة هناك، وحلّ مؤسساتها المدنية وتسريح الجيش، واختصار العراقيين في كانتونات طائفية وإثنية مُحدّدة قد ارتدّ وبالا على واشنطن.
لقد اضطر بوش لاحقا لأن يزور محافظة الأنبار (خصيصا) ويلتقي بشيخ عشيرة هناك طلبا للنجدة. أدرك الأميركيون أن مفاتيح الحلول للكثير من الملفات الصعبة هي لدى أطراف كانوا يعتبرون وجودها هامشيا. فكانت نتيجة ذلك هي أن يتفاوض الجيش الأميركي مع 90 في المئة من الذين كان يُقاتلهم.
يتكرّر الحال مع باراك أوباما الآن، ولكن هذه المرة في أفغانستان وجزءٍ من باكستان. اليوم يتمّ الحديث عن مصالحات تجري مع «الإسلاميين المحليين» في قِبال «الإسلاميين الدوليين» الذين يُمارسون الجهاد (المُعَوْلَم) ضد المصالح الأميركية!
المشكلة هنا تكمن في الفروق بين البُلدان. فالعراق يختلف عن كلّ من باكستان وأفغانستان.
وشروط المقاتلين وسقوفهم تختلف أيضا. نحن نتحدث عن الوعاء الاجتماعي والديني والمعنوي والعملياتي للسلفيّة الدينية والقبلية البشتونية.
مثلا، في وادي سوات في الشمال الغربي لباكستان، الرازح (سياسيا) في قبضة القبائل والمتشددين الإسلاميين أعلنت حركة طالبان على لسان زعيمها المحلي شاه دران «منع الفتيات من التوجه إلى المدارس، وقتل كل من تتحدى قرارها، وتدمير 1580 مدرسة.
الغريب أن الحكومة الباكستانية أبرمت اتفاقا مع الإسلاميين المتشددين، قرّرت بموجبه سحب قواتها المسلحة، والسماح لهم بإنشاء نظام قضائي إسلامي في مناطق نفوذه، كشرط لوقف نشاطهم المُسلّح ضد القوات الباكستانية.
بطبيعة الحال فإن الإدارة الأميركية موافقة على ذلك ما دام الأمر سيُنهي لها وجود فرص ولو متدنية لاستقواء الإسلاميين بنتائج المعارك الاستنزافية التي تسير لصالحهم، وبالتالي اقترابهم من قرار الدولة الباكستانية بكل ما فيه من توازن استراتيجي وأزرار نووية. أن تعطيهم ما يريدون من حرية الممارسة المدنية والدينية في مناطقهم أفضل من مُنازعتهم لها الحكم.
هذا النوع من التسويات يبدو أنه أصبح توجها مثمرا بالنسبة للأميركيين، سواء في باكستان أو في أفغانستان التي بدت محلّ اهتمام الديمقراطيين بقوّة. إنها مشاريع سياسية تقوم على نظرية: «ليس الحجاب مثل الحزام الناسف». إنها صفقات من نوع آخر، فهل هي سترة نجاة فعلا؟!
المشكلة هنا تكمن في الفروق مرة أخرى. فعندما سوّى الرئيس بوش خلافاته في العراق، كان قد أتمّها مع العشائر الأنبارية. في أفغانستان المعركة مزدوجة. هي جغرافية بشتونية دينية. إنها معركة متكاملة.
في الجغرافيا نحن نتحدث عمّا يُساوي المسافة بين واشنطن ومدينة ألبوكرك في ولاية نيو مكسيكو. وفي القومية نحن أمام حزام بشتوني يحكمه تاريخ اجتماعي وقبلي عصيّ على التطويع. وفي الدين فنحن أمام تماهي السلفيتين العربية والآسيوية الجنوبية بشكل مُحْكَم.
أقصى القول وأتمّه، أن التسويات ستُنجَز ولكن بسمتين مختلفتين. الأولى أن كلفتها للأميركيين ستُصبح بذات الكلفة العسكرية التي تكبّدها بوش في العراق، على اعتبار أن تقوية هذه المجاميع يُفضي بشكل آلي إلى تعاظمها أكثر مثلما جرى مع المجاهدين الأفغان في ثمانينيات القرن الماضي.
والثانية أن نتائجها ستكون سلحفائية. فالخصم الأفغاني لا تهمّه كثيرا مفاوضات التفاصيل القائمة على التنازلات، بقدر ما تعنيه المفاوضات الغارقة حتى شحمة الأذن في العُموميات والاختزالات. إنها فعلا ورطة للديمقراطيين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2386 - الأربعاء 18 مارس 2009م الموافق 21 ربيع الاول 1430هـ