ازدحمت الآفاق بمؤتمرات الاصلاح الديمقراطي ومنتدياته، وتزاحمت المطالبات والشعارات وتناسلت سريعا كالفطر، وتحولت الشعارات الى قرارات أو توصيات، لكن من يقرأ ومن يسمع، بل من ينفذ؟!
على مدى الأيام القليلة الماضية تابعنا تلك الظاهرة المثيرة للانتباه وهي تمتد من الرباط في أقصى المغرب الى دبي في اقصى المشرق، اذ الشعارات والأجندات والتوصيات تكاد تكون متشابهة ان لم نقل متماثلة، ولا ندري هل ذهبت الى حيث يجب ان تذهب، وهل سمعها أو سمع بها من يجب ان يسمع، أم ان الأمر لا يعدو مظاهرة كلامية سرعان ما تنصرف مثل غيرها من قبل... وكفى؟!
فلا المظاهرة وأصحابها يملكون حتى الآن على الأقل ما يفرضون به توصياتهم الداعية الى الاصلاح الديمقراطي، ولا نظم الحكم المعنية والمقصودة تعطي للمظاهرة والمتظاهرين أي اهتمام، أكثر من اطلاق قوى الأمن عليها فتتعامل معها بطريقتها المعهودة... والنتيجة هي كما نعلم جميعا.
صحيح ان الحركة الوطنية والديمقراطية في مصر ومعظم البلاد العربية تطالب منذ عقود طويلة بالاصلاح والتحديث والتغيير، انطلاقا من قطاعات حقيقية وتعبيرا عن طموحات شعبية أصيلة، لكن الصحيح ايضا ان الضغوط الأجنبية، وخصوصا الأميركية خلال الثلاث السنوات الأخيرة، قد زادت من حدة هذه المظاهرة، وشجعت المتظاهرين على الاندفاع في طريق المطالبة بالحريات وحقوق الانسان، بينما الاهداف مختلفة!
وبقدر ما أدمنت النظم الحاكمة في بلادنا اهمال دعوات الحركة الوطنية للاصلاح والتغيير، وتجاهلت مطالبها المشروعة، بقدر ما ارتعشت امام هجمة الضغوط الاجنبية الأخيرة، وخصوصا الدعوة الأميركية لتحديث العرب والمسلمين، الذين انتجوا متطرفي هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن، تلك الهجمات التي اعتبرها كثير من المحللين بمثابة الخط الفارق بين عصر وعصر في التاريخ الانساني الحديث!
ومنذ ذلك التاريخ شنت جحافل الامبراطورية الأميركية حربين متوازنتين على العالمين العربي والاسلامي، أولاهما هي «الحرب المسلحة المدمرة ضد منظمات ونظم الارهاب» وكانت أفغانستان ثم العراق أهم ساحتين استخدمت فيها كل الأسلحة وأحدث التكنولوجيات من جانب جيوش الامبراطورية الشرسة والمنفلتة.
أما الحرب الثانية فكانت حرب الاصلاح والتحديث والتغيير أو حرب الافكار وهي حرب سياسية ثقافية دعائية تهدف الى «تغيير العقول والافكار والبيئات الاجتماعية والفكرية التي انتجت الارهاب والارهابية» كما يقول فلاسفة البنتاغون وتلاميذهم المنتشرون في اركان الدنيا، وخصوصا في بلادنا العامرة.
وبقدر ما تورطت الآلة العسكرية الأميركية في جبال أفغانستان وسهول العراق، تنزف دما حتى الآن، من دون تحقيق أهدافها بنصر حاسم، بقدر ما جوبهت حربها الأخرى بمقاومة لا تقل قوة عن المقاومة المسلحة في ميادين القتال تلك، على رغم جاذبية الشعارات التي رفعتها باسم الاصلاح الديمقراطي والتحديث العصري والتغيير الضروري لنظم الحكم التي استبدت بشعوبها وطال استبدادها وفسادها.
وفي كل الاحوال خرجت نظم الحكم رابحة حتى الآن على الوجهين للغرابة الشديدة، فقد استغلت أولا الحرب العسكرية الأميركية على الارهاب، وما فرضته من اجراءات وقوانين مشددة، لتزيد هي تحكمها الهائل على مصائر الشعوب ورقابها وتتشدد في تطبيق قوانين الطوارئ وتضيق على الحريات وتنتهك الحقوق ايضا، باسم المشاركة في الحرب على الارهاب ومطاردة الارهابيين مساندة للحليف الاميركي.
وثانيا استغلت الحملات السياسية والدعائية الأميركية للاصلاح بصورة عكسية، مستفيدة الى أقصى مدى من النفور الطبيعي والرفض الشعبي لهذه الدعوات المفروضة من الخارج، وصارت تتذرع بهذا النفور والرفض لمقاومة الضغوط الاميركية المطالبة بالاصلاح والتغيير.
وفي الحالين تدفع الشعوب الثمن الباهظ من حريتها وحقوقها في الحياة الحرة الكريمة، ذلك ان المراوغة بالاصلاح الديمقراطي أصبحت مثل «لعبة شد الحبل» ما بين أميركا وجماعاتها من المتأمركين العرب من ناحية، وبين النظم الحاكمة التي لا تريد التخلي عن سلطتها المطلقة من ناحية أخرى!
هكذا تم اختطاف الاصلاح الديمقراطي من أيدي الحركة الوطنية وتم أسره بين طرفي شد الحبل وتسابق كل طرف في تدعيم مواقعه وتحصين دفاعاته وتحضير ترساناته بينما وقعت الشعوب وحركتها الوطنية المطالبة باصلاح ديمقراطي حقيقي بين المطرقة والسندان من دون قدرة حتى الآن على اقتحام حصون هذا وذاك لاسباب عدة ومعروفة!
ولأن مؤتمرات الاصلاح ومنتديات الديمقراطية تكاثرت وتناسلت كالفطر هذه الايام، فقد اختلطت المفاهيم قدر اختلاط المصالح وتعدد الاهداف، فإن كانت بعض الحكومات قد سارعت إلى عقد مثل هذه المؤتمرات واطلاق الحملات رافعة شعار الاصلاح الديمقراطي من باب المراوغة والتنفيس، مراوغة الضغوط الخارجية من ناحية، وتنفيس الضغوط الداخلية من ناحية أخرى فإن أميركا وكتائب المتأمركين لم تقصر ولم يقصروا لكنهم بحكم القوة السياسية والاعلامية وبفضل التمويل السخي، الذي يتدفق مثل الشلالات الغزيرة قد زرعوا الأرض وملأوا الفضاء مؤتمرات وندوات لا يكاد واحد ينتهي هنا الا ليبدأ واحد هناك!
ومثلي لايزال يبحث عن النتائج من دون نتيجة!
ومنذ مؤتمر الاصلاح الذي انعقد في مارس/ آذار الماضي، في رحاب مكتبة الاسكندرية بحضور نخبة مميزة من مفكري الامة ومثقفيها، حتى منتدى المستقبل في الرباط، والمنتدى الاستراتيجي في دبي بالامس القريب، تعددت المؤتمرات والمنتديات باسم الديمقراطية من دون ان نتقدم في الطريق العملي خطوة واحدة، بل احيانا من دون ان تتغير الوجوه التي شاركت هنا وهناك، وبالتالي من دون ان تتطور الافكار والرؤى ولا حتى الشعارات التي تتخفى وراءها أهداف ظاهرة أو باطنة!
وبين مؤتمرات النظم العربية المنعقدة باحكام ومنتديات الجماعات الأميركية الممولة بسخاء انشطرت النخب العربية في انفصام شديد، وتبعثرث الحركة الوطنية الديمقراطية من دون رابط لأن طرفي شد الحبل قد داهماها بحروب سرية حادة، وخطفا منها الهدف النبيل بليل شديد الظلمة، من دون أي معين، ربما لقصور ذاتي، وربما لقوة المنافسين الخاطفين.
فماذا يمكن ان تفعل هذه الحركة محدودة القدرات في مواجهة هذه الضغوط المزدوجة والحصار الثنائي من الداخل والخارج؟ هل تقبل بالأمر المفروض بقوة الواقع؟ هل تذوب وتنضم صاغرة لأحد الطرفين خاطفي الاصلاح الديمقراطي الحقيقي وتقبل بدفع الثمن الباهظ، وتفقد صدقيتها عند الرأي العام الذي يعول عليها كثيرا؟ هل تبحث عن طرف ثالث أو بمعنى أدق تبحث عن طريق ثالث؟
أسئلة عدة أطرحها على نفسي وعليكم نيابة عن هذه الحركة ولكن حتى تنضج الاجابات على نار هادئة، بعيدا عن سباق المؤتمرات والمنتديات المتناسلة المتكاثرة واياها، دعونا نفكر في تنظيم «مختبر عملي» يضع امامنا تصورا واقعيا لمشروع اصلاح ديمقراطي حقيقي يتجاوز ضغوط النظم الحاكمة، ويسمو فوق اغراءات الاصلاح القادم من الخارج المفروض بقوة المال والسياسة والجيوش الغازية على نحو ما رأيناه في المشروع الأميركي للشرق الأوسط الموسع، والذي تبنته الدول الصناعية الكبرى الثماني في يونيو/ حزيران الماضي، ودفعته دفعا الى «منتدى المستقبل» الذي انعقد في الرباط قبل أيام.
ماذا لو فكرنا في مختبر مصغر ومستقل تتبناه النخبة المصرية أو المغربية على سبيل المثال، بحكم تجاربها الطويلة والغنية مع العمل الديمقراطي، يضم مجموعة محدودة من رجال السياسة والفكر وممثلي الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وخصوصا النقابات المهنية والعمالية واساتذة الجامعات ونشطاء حقوق الانسان «الحقيقيين» ليصوغ لنا مشروعا رياديا، ولا نقول نموذجيا للاصلاح الديمقراطي الحقيقي النابع من أرضنا والمعبر عن طموحات شعوبنا، مصحوبا بخطة عمل واقعية قابلة للتطبيق والتنفيذ قادرا في الوقت نفسه على مقاومة الاختلاق المزدوج، الداخلي والخارجي على السواء.
قد تكون هذه مجرد أفكار حالمة، ولكن النجاحات الكبرى تبدأ دوما باحلام كبرى... إذ ربما!
خير الكلام:
قال تعالى: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب...» (هود:88) صدق الله العظيم
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 838 - الثلثاء 21 ديسمبر 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1425هـ