انسحاب محمد خاتمي من حلبة التنافس على الرئاسة الإيرانية أعاد خلط الأوراق بين المترشحين على الموقع. فالانسحاب كان متوقعا بعد إقدام رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي على ترشيح نفسه من دون أن يصنف هيئته السياسية ويحشرها في جبهة «الإصلاحيين» أو «المحافظين».
خاتمي كان أعلن قبل أن يبادر إلى اتخاذ خطوة الترشح أنه سينسحب في حال خاض موسوي المعركة وقرر النزول إلى الميدان. كذلك أبدى تعجبه من تردد موسوي في اتخاذ القرار ما دفعه إلى خوض تجربة الترشح بعد أن أعطى مهلة مفسحا المجال له في حال بادر إلى عدم تفويت الفرصة.
المسألة إذا كانت واضحة منذ البداية في تفكير خاتمي وخطته وهي اعتمدت على معادلة بسيطة: أترشح حتى لا أفوّت الفرصة وأنسحب في حال قرر موسوي خوض التجربة. وهكذا كان.
لماذا يفضل خاتمي موسوي حتى على موقعه؟ السؤال مفتوح على آخر لماذا يراهن خاتمي على موسوي ويرى فيه الشخص المؤهل لاحتلال الموقع؟
هناك احتمالات كثيرة منها: أولا، إن خاتمي جرّب حظه في الرئاسة على دورتين وفشل في تحقيق مشروعه بسبب التعطيل الذي مارسه جناح «المحافظين» ضد «الإصلاحيين» وبالتالي فإنه أصبح على قناعة ضمنية بأنه لن ينجح في مهمته حتى لو فاز. ثانيا، إن خاتمي يرى أن ترشحه يوحّد «جبهة الإصلاحيين» كما يقال لكنه لا يضمن الفوز المؤكد في معركة تعصف بها مجموعة معطيات معطوفة على مداخلات من رأس هرم الدولة. ثالثا، إن خاتمي يرى أنه حتى لو فاز في الانتخابات الرئاسية فإن منصبه سيبقى معرضا للانقسام السياسي الأمر الذي سيضعف جبهة إيران الداخلية وسيعرّضها للتدخلات الأجنبية... وبالتالي فإن موسوي «أقل كلفة» كما قال.
إلى هذه الاحتمالات هناك تحليلات كثيرة كانت تشير إلى وجود مخاوف حقيقية عند خاتمي من انقسام إيران عموديا بين كتلتين سياسيتين سواء فاز هو في المعركة أو فاز خصمه محمود أحمدي نجاد. فالتحليلات المبنية على استطلاعات كانت تؤشر إلى وجود توازن في القوى مع غلبة طفيفة متأرجحة بين الكتلتين ما يعني أن الفائز سيكون دائما في حال قلق من نمو التوتر بين القوتين ما سيرفع من درجة الانقسام الداخلي وسيؤدي إلى تعطيل إمكانات تنفيذ أية خطة إنقاذ للاقتصاد أو برامج التنمية والتعمير.
لكل هذه الأسباب كان خاتمي يرى أن موسوي هو الاختيار الأمثل بين الكتلتين لأنه من جهة يعتبر من دعاة الإصلاح وليس بعيدا عن المحافظين كما يقال. واختيار الوسط بين الكتلتين يمنع إيران من الانزلاق نحو الانقسام السياسي العميق ويمنح فرصة لإعادة ترميم جسور الثقة بين ما يسمى بجبهة الإصلاح وجبهة المحافظين. وبناء على هذا التصور أسّس خاتمي رؤيته لمعركة الرئاسة حين ربطها بالانقسام الداخلي وتعطيل فرص النمو والتوّحد في المستقبل فأقدم على الترشيح حين تأخر موسوي في إعلان موقفه وانسحب من المعركة حين قرر موسوي خوضها.
السؤال هل تصحّ رؤية خاتمي بعد أن أعلن دعمه لموسوي وطالب أنصاره التصويت له؟ الأجوبة متعارضة في ردودها بين طرف يؤكد أن الانسحاب أعطى فرصة للرئيس الحالي بالفوز وتجديد ولاية ثانية وبين طرف يؤكد أن هناك فرصة لموسوي بالفوز في حال توحّدت جبهة الإصلاحيين ولم تتوزع أصواتها على المتنافسين. والنتيجة أن الانسحاب خلط الأوراق وأعاد رسم خريطة طريق سياسية للتحالفات والمواقع.
الاختلاط ناتج عن عدم وضوح رؤية «الإصلاحيين» في تحديد مواصفات البديل وصفاته. فالجبهة الإصلاحية ليست واحدة وموحّدة فهي قد تجتمع وراء خاتمي ولكنها قد تنقسم في حال وجدت أن المترشح البديل لا تتوافق هيئته مع شروطها. ولأن الجبهة جبهات وليست حزبا فهي معرّضة للتوزع والاختيار بين موسوي ومهدي كروبي المحسوب أيضا على جبهة الإصلاحيين. وهذا الأمر يشكل خطرا على القوى الإصلاحية وخصوصا في الدورة الأولى لأنها قد تعطي فرصة لأحمدي نجاد بتحقيق غالبية بسيطة عن النصف تمنع حصول دورة ثانية. وبما أن هذا الأمر مستبعد حصوله في الدورة الأولى تشير الترجيحات إلى إمكان فوز المترشح الإصلاحي في الدورة الثانية حين تجتمع فيها أصوات كروبي إلى أصوات موسوي. هذا الاحتمال أيضا هناك من يشكّك بحصوله استنادا إلى معادلة حصلت في معركة الرئاسة في العام 2005 حين أشارت الاستطلاعات إلى فوز رفسنجاني وجاءت النتائج معاكسة حين قررت مجموعة مهمة وقوية ونافذة من جبهة الإصلاحيين مقاطعة التصويت في الدورة الثانية ما أعطى فرصة لرئيس ايديولوجي ضعيف ومضطرب وغير مؤهل بالوصول إلى منصب الرئاسة.
سقوط رفسنجاني في الدورة الثانية لمصلحة أحمدي نجاد كان نتيجة مواقف كيدية اتخذتها مجموعات ومنظمات محسوبة على خط الإصلاح. فهذه الهيئات أرادت معاقبة رفسنجاني فقررت المقاطعة في اللحظات الأخيرة لدوافع غير معروفة حتى الآن ما أسفر عن انقلاب التوازن وحصول مفاجأة.
هل تكرر تلك المجموعات والمنظمات موقفها وتقرر معاقبة موسوي أو كروبي وتترك إيران محكومة بقيادة سياسية غير متوازنة في قراراتها وخطواتها وتنخرط في معارك وهمية غير مدروسة وتنزلق نحو سياسات تزرع الاضطراب في الداخل والمخاوف في المحيط أم أنها ستتوحد وراء مترشح يجمع بين كتلتين ولا يثير غضب هذا الجناح أو ذاك؟ الأجوبة هنا أيضا غير واضحة لأن بعض تلك الهيئات أعلن العودة إلى سياسة المقاطعة ردا على انسحاب خاتمي. فهذه الهيئات كانت غاضبة وغير موافقة على خطوة خاتمي باعتبار أنها ترى فيه الرجل المناسب لإعادة التوازن المفقود بين الحلقات الإيرانية والطرف القادر على إعادة توحيد جبهة الإصلاحيين في مواجهة المحافظين.
المشكلة أن خاتمي لا يرى الأمور من هذا المنظار الضيّق. فهو يعتقد أن إيران موحّدة سياسيا في الوسط أفضل من أن تكون منقسمة بين جبهتين وهذه الوحدة المفترضة لا يحققها سوى موسوي الذي يجمع التعارض ولا يفرّط بالتوازن بين الكتلتين.
انسحاب خاتمي المتوقع شكّل صدمة لمجموعات من «الإصلاحيين» لذلك بدأت التحليلات ترجّح فوز «المحافظين» اعتمادا على الفرقة وتشتت القوى المتنافسة. إلا أن الاحتمالات لاتزال مفتوحة أمام موسوي الذي يبدو أنه يلقى الاحترام وربما الدعم الخفي من مروحة من القوى المتنوعة في أفكارها ومصالحها أو تلك التجمعات المتضررة من تهوّر أحمدي نجاد وتوتره «الايديولوجي» الذي أضرّ بسمعة الجمهورية وضرب الكثير من العلاقات ودمّر جسور ثقة بينها وبين الجيران ودول الجوار.
تجمع المتضررين قد يشكّل ذاك الرافد الذي يعزز فرص فوز مترشح غير مصنف تقليديا على هذه الجبهة أو تلك ما يرفع من نسبه إعادة بناء الثقة على أساس الوحدة الداخلية والتصالح مع المحيط العربي - الإسلامي والخروج من سياسة العزلة والمناكفة والمزايدة التي أطاحت بالكثير من الموجود وفشلت في تأسيس الوعود. فهل يكون موسوي هو الحل المناسب لمجموعة متغيرات أخذت تظهر في الفضاءات الدولية (الأميركية - الأوروبية) والإقليمية (العربية - الإسلامية) أم يعاد إنتاج نموذج غير صالح ولا تستحقه إيران؟ الجواب النهائي يقرره الناخبون في يونيو/ حزيران المقبل. وقبل اقتراب الموعد يمكن مراقبة الكثير من التحولات للحكم على النتيجة من دون حاجة لانتظار موعد إعلانها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2386 - الأربعاء 18 مارس 2009م الموافق 21 ربيع الاول 1430هـ