في مؤتمر الإسلام والديمقراطية الذي حضرته نخبة من المثقفين والعاملين في الساحة البحرينية، أثيرت نقاشات كثيرة بشأن تطوير الوضع الديمقراطي في البحرين، وتباينت وجهات النظر بين من أعطى الأولوية للإصلاح الدستوري بتحقيق دستور متفق عليه بين السلطتين الشعبية والرسمية، وبين من دعا الى خصوصية الإصلاح السياسي بتحقيق مشاركة حقيقية للجماهير في صنع القرار عبر سلطة تشريعية منتخبة، وبين من دعا الى الإصلاح الاقتصادي عبر مناقشة الوضع المعيشي السيئ، وحل مشكلة «الفقر» بمعناه الدولي والتي تعيشها قطاعات واسعة من أهل البحرين. كما دار الحديث عن الحريات العامة التي تعرضت الى تضييق في المرحلة الأخيرة. وطال الحوار قضايا مهمة تتطلب معالجات جدية. وأعتقد أنه لا يمكن تفكيك الأولوية في قضية الإصلاح، فهناك ثلاث ملفات شائكة تحتاج الى حل طارئ لا يمكن تأجيله بأي حال. القضية الأولى هي الوضع المعيشي المتردي لدى أكثر الجماهير، فمتطلبات البقاء على الحياة تحتاج الى أساسيات تتمثل في السكن والوظيفة بالدرجة الأولى، وأي تأخير في معالجة هذا الملف ستترتب عليه مضاعفات خطيرة سياسية واجتماعية.
القضية الثانية هي إيجاد سلطة تشريعية منتخبة بأكملها تستطيع أن تعبر عن آراء الشعب، وتراقب سير السلطة التنفيذية. أما القضية الثالثة فهي وجود سلطة قضائية مستقلة لا هيمنة للحكومة عليها، ذلك لأن الجهات المختلفة - أفراداً ومؤسسات تجارية أو مدنية أو رسمية - حين تختلف تحتاج الى جهة محايدة فعلاً، تستطيع أن تعيد الحق الى نصابه، فلا يمكن للاقتصاد والسياسة أن يتطورا في ظل قضاء مُهيمن عليه.
الحوار الذي جرى بين شخصيات منتمية لتيارات سياسية وفكرية متعددة، أوضح اننا نجري حواراً داخلياً فقط، أي بين قوى المجتمع المدني، فليس هناك طرفٌ حكوميٌ فعالٌ يستمع لنقاشاتنا، ويمكن أن يتأثر ويؤثر بحضوره. بل ان الجميع اتفق في مختلف جلسات الحوار على أن هناك فعلاً أزمة ثقة بين السلطة والقوى الشعبية. وفي إحدى النقاشات الجانبية أثرت مداخلة أمام بعض الحاضرين، وهي أن الشخصيات الرسمية تكاد تكون بعيدة كل البعد عن نبض الحوارات التي تدور بين الجماهير والنخب الوطنية، وأن علينا أن نبحث عن وسائل شتى لضم الرسميين وخصوصاً الشخصيات ذات التأثير في الحوارات والمجالس الشعبية، ليستمعوا لما يقوله الناس. أحد الحاضرين علق على ذلك، بأن هذه الشخصيات الرسمية تتجنب الحضور في أية مؤتمرات أو ندوات مفتوحة خوفاً من الإحراج الذي يمكن أن يحصل لها وللموقف الرسمي. والبعض طرح أن الشخصيات الرسمية لا تحب هكذا أجواء. وحين طلب منا مُنظّم الجلسة أن يكتب كل واحد منا باختصار أهم توصية يراها مهمة في نظره، اقترحت على الحضور فكرة «مؤتمر وطني شامل» يجمع بين جميع القوى الفعالة في المجتمع وشخصيات مهمة وأساسية من السلطة التنفيذية، ويتم فيه طرح القضايا كافة التي يراها الجميع ذات أهمية ولها أولوية في الحوار. أما ما يستهدفه هذا المؤتمر فهو إيجاد مصالحة حقيقية بين الجهات الرسمية والقوى الوطنية المختلفة عبر حوارات متنوعة ومتواصلة للوصول الى رؤى وثوابت وأولويات مشتركة للعمل الوطني في المرحلة المقبلة.
أما القول بان لدينا مجلساً نيابياً منتخباً، وأنه وحده ميدان فرز الحوارات بين الشعب والسلطة، فهو قول مردود، لأن الواقع أن الكثير من القوى الأساسية في المجتمع غير حاضرة في المجلس النيابي، ولها وجهة نظر نحوه. كما أن للمجلس النيابي وظائفه الخاصة وملفاته التي ينبغي أن يعالجها، في حين أن هذا المؤتمر ينبغي أن يضم نخباً سياسية وفكرية ذات ثقل وتأثير سياسي وديني واجتماعي، ووظيفته الحوار الوطني. فمثل هذا الحوار الجاد والمتواصل بنوايا صادقة عند الجميع في تطوير بحريننا هو الذي يمكن أن يجعل سفينة الوطن ترسو على بر الأمان في المستقبل، إذ ان أزمة الثقة بين الحكومات والشعوب لن تُحل إلا بالحوارات الجادة والحقيقية التي تحدوها الرغبة في التغيير الى الأفضل، والمتمتعة بالنفس الطويل. فلا ينبغي أن تتوقف الحوارات بسبب هذا الاختلاف أو ذاك، أو بسبب قضايا طارئة أو مفتعلة. فالحوار الذي جرى بين الجمعيات الأربع المقاطعة ووزير العمل شابه الكثير من الأزمات والاشكالات، وهو لم يكن حواراً وطنياً شاملاً لأنه بين جهات معينة ووزير فقط، في حين أن المؤتمر الذي نقترحه هو أكبر بكثير من حل لأزمة أو قضية بين جهتين، أنه تفاهم تاريخي ووطني جاد ومتواصل بين السلطتين الشعبية متمثلة في نخبها ورموزها وبين السلطة الرسمية متمثلة في رجالاتها وأصحاب القرار للوصول الى قناعات مشتركة متفق عليها. إن هكذا حوار وطني عقلاني سيرسخ العقلانية في الوطن كله، والتي تثمر الخير العميم الذي علينا أن نحققه ونتبعه، مصداقاً لقوله تعالى: «فبشر عبادِ، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب»، الزمر 17 - 18
العدد 837 - الإثنين 20 ديسمبر 2004م الموافق 08 ذي القعدة 1425هـ