أتيحت لي الفرصة في الاسبوع الماضي لزيارة معرض بيروت العربي الدولي الـ 48، ولأنه معرض يقام في عاصمة النشر والثقافة العربية الدائمة، فلم يكن هناك ما يثير استغرابك كثيراً وأنت ترى في متناولك الكتب التي لا تجدها في بلادك على ضفاف الخليج.
على أن هناك دار نشر قديمة، استوقفتني كثيراً أمام ما تعرضه من «تحف» فنية نادرة، كأنها مستمدة من إحدى حفر التاريخ السحيقة. لم تكن بضاعتها من كتب التاريخ أو المدوّنات الأثرية، ولكنها من مخلفات الحقبة الكاذبة التي سادت المنطقة وسدّت الأفق العربي بترّهاتها وبطولاتها الفارغة. لتقرأ معي هذه العناوين، ثم امنع نفسك من شم رائحة النفط ان استطعت:
«عفلق والبعث... نصف قرن من النضال»، الذي قاد الأمة العربية لكل هذا الدمار والدماء. و«عفلق الأديب»، هل أنت بحاجة إلى قراءة سيرة النبي الجديد؟
عنوان آخر طويل جداً: «قاهر المستحيل... تفاصيل من السيرة الوضّاءة لسِفْر النضال الخالد للقائد الرمز صدام حسين». ولستَ بحاجةٍ إلى معرفة كاتب هذه السيرة «الوضاءة»، ولكن ليتنا نعرف كم قبض عليها من أموال الشعب العراقي الذي سجن 35 عاماً في الأقفاص البعثية الاشتراكية العظيمة. ليتنا نتأكد من ورود اسمه على قائمة «كوبونات النفط»، وكم برميلاً نفطياً تسلم لقاء هذه الكتابة «الخالدة»!
كتابٌ آخر تطوّع لكتابته اللواء الركن المتقاعد محمود أحمد عزت، تحت عنوان بديع: «المخادعة العسكرية في منظور الرئيس القائد صدام حسين»، وربما نُشر الكتاب قبل أكثر من عقدين، إذ كانت تغطيه طبقة من الغبار السميك، حتى كنت تجد صعوبة في قراءة عنوانه. وهو كتابٌ بديعٌ لأنه طرح مفهوم المخادعة العسكرية في منظور الرئيس القائد، الذي أبدع في حرب تحرير الكويت، بسحب قواته المظفرة دون تغطية من مدفعية ولا هم يحزنون، فأعطى الأميركان فرصة على طبق من ذهب لإبادة ثلاثين ألف جندي عراقي خلال يومين! هكذا تكون المخادعة وهكذا تكون المناظير! لكنها «شنشنة أعرفها من أخزم».
أما عدنان جنابي، فتفنّن في عرض إبداعاته هو الآخر في كتاب: «القضية الاقتصادية القومية في فكر الرئيس القائد صدام حسين». ثم تسألون: لماذا حاقت الكارثة بالعراق!
العراق لم يسقط تحت وطأة الاحتلال إلاّ بعدما استبيح عقله وفكره وحضارته ورجالاته وشعراؤه، تحت أقدام أشخاص كانوا باعة ثلج وباعة كلام رخيص، إذ راجت طوال خمسة وعشرين عاماً سوق نخاسة الضمير واسترخص الشرف وبيعت الأقلام كما يباع البطيخ في سوق الخضار.
حقبةٌ كاملة، كذبٌ وتدجيلٌ ونفاق من الطراز الرفيع! لا احترام لعقل ولا فكر ولا تاريخ، المهم ان يستمر تحميل براميل النفط من الموانئ الجائعة، التي اشترك في مصّ خيراتها الرئيس المناضل وعائلته حتى حوّلوها بستاناً خاصاً يربون فيه الأسود، ويقيمون فيه القصور أيام الحصار الأميركي الطويل.
الهراء الذي قرأتم بعض عناوينه أعلاه، يكشف لنا الدور التخريبي للأوطان، الذي يقوم به المطبلون وحاملو المباخر، النسخة الجديدة من وعّاظ السلاطين: «وعّاظ رؤساء الجمهوريات العربية» الظافرة. فإذا تغيّرت الرياح وانزاح أحد أعتى جبابرة العصر عن كرسيّه، حمل القوم مباخرهم وأخذوا يعلنون النفير خوفاً على «القومية العربية»، يدبجون رسائلهم المفتوحة، إلى قادة مجلس التعاون الخليجي، مرةً يدعونهم إلى ضم بلدان أخرى للمجلس، ومرةً لمواجهة الهلال المزعوم، الذي اختلقته هواجسهم المرضية، ليصبوا الزيت على النار الخابية. وكأن العراقيين، العرب الأقحاح، يريدون اليوم من يعلّمهم دروساً في القومية من وراء الحدود، من منظّري عصر الانحطاط وفيلسوفات آخر الزمان التعيس!
«نصف قرن من النضال»، و«سيرة وضاءة للقائد الخالد»، و«المخادعة العسكرية»، و«القضية الاقتصادية القومية عند صدام»... هل تتحملون بعد اليوم جرعات أخرى من الكذب والنفاق، أم أن الوقت قد حان لوقف هذه الاستهانة الفاضحة بحق الوطن والأجيال؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 837 - الإثنين 20 ديسمبر 2004م الموافق 08 ذي القعدة 1425هـ