العدد 837 - الإثنين 20 ديسمبر 2004م الموافق 08 ذي القعدة 1425هـ

عبدالمحسن الصحاف... الشاعر حينما يتلبسه حب الوطن (2 -3)

الصخير - أنيسة منصور 

تحديث: 12 مايو 2017

من منطلق كون الصحاف شاعر البلاط الهاشمي، والشاعر المقرّب إلى الشريف حسين بن علي ملك الحجاز في زمنه، مدحه بالكثير من القصائد مسايراً في توجهه المدحي أدبيات فن المديح في الخطاب الشعري العربي. وتبدو في تلك المدائح نزعة وثائقية يسجل فيها الشاعر الكثير من الأمور المتعلقة بالأوضاع السياسية العربية زمن الشريف حسين وبالحروب التي خاضها والمعارك التي شارك فيها.

وكان الملك حسين وغالبية العرب ناقمين على حكامهم الأتراك لما نهجوه من سياسة خرقاء، وأساليب جائرة سببت لهم قهراً ومعاناة شديدة. وكان مما انتهجوه آنذاك سياسة قتل طلائع رموز اليقظة العربية، وتشريد الكثير من العرب الناشطين، وحرمان الشعوب من خيراتها، فاتسعت روح النقمة وخصوصاً في الحجاز والعراق وبلاد الشام وزاد السخط العربي، وتبلورت فكرة الدعوة إلى التخلص من الحكم العثماني.

ظهرت محاولة الملك حسين الانفصال عن الأتراك وشجعه البريطانيون على هذا المسعى. وإبان الحرب العالمية الأولى التي استمرت من العام 1914 وحتى 1918 قام بعدة محاولات لتحقيق الاستقلال وتقليص النفوذ العثماني. وتمكّن خلالها من محاصرة القوات التركية في البلاد الحجازية، وأمدّه الانجليز بالمال والسلاح، وأرسل أبناءه لتحقيق الاستقلال والانفصال عن تركيا. وحين تمكن أحد أنجاله من دحرهم من المدينة المنورة بمحاصرتهم والتخلص منهم هنّأه الصحّاف بذلك الانتصار في قصيدة أسماها «فتح طيبة الغرّاء في انتصار الزهراء» مدحه فيها، وأشاد بذلك الفوز فقال: (الكامل)

يا أيُّها الملكُ «الحسينُ» ومن رَقَى

رُتبَ الفخارِ بفضلِهِ المتفرّدِ

اهنَأْ بخيرِ بشارةٍ عن «طيبةٍ»

من أُسعدتْ دوماً بحجرةِ «أحمدِ»

فاليومُ هذا يومُ عيدٍ أكبرٍ

ومسرةٌ أمثالُها لم نعْهدِ

والعهدُ هذا عهدُ تاريخٍ بهِ

للعربِ نصرٌ فيه موتُ الحُسَّدِ

والعامُ هذا عامُ فتحٍ أعظمٍ

لبنيكَ أصحابِ السموِّ الرُّشدِ

ووصف فرحة الانتصار التي عمّت الناس والطبيعة، وأشار إلى اندحار العدو وتقهقره بفضل بسالة القادة من أبناء الملك حسين الذين تحقق النصر على أيديهم:

دخلوا «المدينة» والقلوبُ مشوقةٌ

والورْقُ بينَ مُغَرّدٍ ومُرَدّدِ

دخلوا «المدينة» بعد أن محقوا الألى

ماتوا بداخلِ أرضِها والمسجدِ

دخلوا وكلُّ الصيدِ في جَوفِ الفَرَا

ليس الفَرَا أعلى نقودِ مُسَدِّدِ

لقد اعتبر الشاعر النصر المتحقق نصراً مؤزراً لا يماثله في قيمته أي نصر آخر، يشير إلى ذلك المثل العربي الذي استخدمه «كل الصيد في جوف الفرا» والذي يضرب لمن يفضل على أقرانه ويتفوق عليهم. وفي القصيدة نفسها أشاد بانتصار آخر تحقق في الوقت ذاته وعلى أرض عربية أخرى وعلى يد أنجال الملك أيضاً، فنوّه بدخولهم «دمشق» واجتياحهم «الموصل» وتطلعهم إلى تقدّم أوسع يشمل عواصم عربية أخرى «وكان الملك حسين بن علي وجّه ابنه (فيصل) إلى سورية» واستطاع دخولها فاتحاً بمساعدة الجيش البريطاني:

ما أتحَفَ الأشياء حينَ تواترتْ

عن نصرةِ الأشبالِ وقتَ توطّدِ

ملكوا أماكنَ ليس تُحصى واشتفوا

من كل طاغٍ في الزمانِ ومفسِدِ

وأتَوا «دمشقاً» جائحينَ لـ «موصلٍ»

ومنكِّبينَ عواصماً لم تبعُدِ

فكأنما جيشُ الصحابةِ جيشُهم

بعُلا فتوحاتٍ وجدٍّ تُمهدِ

ووصف تقاطر الوفود المهنئة للملك حسين، وما عمّ من احتفالات بذلك النصر الذي تحقّق وسط ذلك الزمان المظلم المليء بالقهر والاستبداد، وامتدّت تلك الاحتفالات لتشمل غالبية أقطار المشرق العربي:

يا من حَوَى شرفاً ومجداً شامخاً

بَهَرَ العقولَ بعزّةِ المتشيّدِ

تُهنِّيكَ وُفْدُ الشرقِ واليَمنَ الذي

أبدى لكَ الإخلاصَ عند تأكّدِ

في كل شعبٍ من شعوبِكَ زينةٌ

عند المسا حَوَتِ السرورَ وفي غَدِ

قصيدة تحرير دمشق

وإذا كان الصحاف خصص القصيدة السابقة للإشادة بتحرير «المدينة المنورة» وأدرج ضمنها تنويهه بالفتوحات الأخرى فإنه خصَّ تحرير دمشق بقصيدة تليق بذلك الحادث الخطير وعنونها بـ «القصيدة الهاشمية الدمشقية»، وتناول فيها بالمديح الشريف «حسين» وابنه «فيصل» الذي أوكل إليه تخليص الشام من سيطرة الحكم التركي جاعلاً من شعره سجلاً تاريخياً دوّن فيه الحوادث الجسام والانتصارات الكبيرة التي تحققت على يد ممدوحه وأنجاله. واستهل القصيدة الدمشقية بالدعاء بدوام الفوز والفرح واستمرارهما، كما ضمنها تهانيه بالنصر المؤزر، مع تركيز المديح لقائد الجيش الأمين فيصل بن الحسين بن علي: (البسيط)

دامتْ تحييكَ بالفتحِ المسراتُ

وقد تلتها من النصرِ البشاراتُ

فاهنأْ فإنَّ دمشقَ الشامِ قد مُلكتْ

بمنْ له في عداةِ الدينِ سطواتُ

بالفاتحِ الشهمِ والندبِ الوحيدِ ومَنْ

به ترحّب أحزابٌ مطيعاتُ

أعني سموّ الشريفِ الليثِ فيصلكم

ومن بهِ انفصلتْ في الحالِ شِدَّاتُ

ووصف ما شاع من إحساس بالانفراج والانشراح ليس بين أهل الشام وحسب، بل لدى العرب أجمعين بسبب ذلك النصر:

والشامُ عنها أُزيحَ الشؤمُ مُذْ أفلتْ

عن أهلها وانجلَتْ تلكَ الظلاماتُ

والعربُ أرواحُها انبثتْ تقولُ له

تهنيكَ تلك السجايا الهاشمياتُ

وخاطب القائد المظفر مهنئاً له ومباركاً بالنصر، ومتصوراً القوة الخارقة التي أمده الله بها حين أرسل معه ملائكة معلّمين يعضدون الجيش ويؤازرونه:

يا «فيصلٌ» في بلادِ الشامِ أجمعها

نشرنَ روحاً بها تحلو الإشاراتُ

جاءتْ إلى جيشكَ الساري ملائكةٌ

مُسَوَّمونَ لهم بالجيشِ نَجْداتُ

وأضفت فكرة الملائكة نزعة أسطورية استمدها الشاعر من مخزونه الشعري، كما نمّت عن اعتقاده بقداسة ذلك الجيش، وإنه مكلوء برعاية الله ونصره. وعنى الشاعر بوصف التجاوب والفرح العارم الذي انتشر بين المدن العربية وامتدّ ليشمل «المدينة المنورة» و«الشام»، كما تناغمت فيه معهما «مكة» إذ عمّت البهجة، وانتشرت سعادة غمرت الناس والطبيعة، فارتفعت البنود والأعلام والرايات خفاقة عالية منصورة وكانت تسود هذه المناطق روح من العداء والتخاصم قبل هذا الحدث:

و«طيبةٌ» بضواحي «الشامِ» اتصلتْ

بعد التنائي فحيّتْها المسرَّاتُ

وفوقَ رايتِها العلياء قد خفقتْ

من البشائرِ أعلامٌ وراياتُ

وأرضُ «أُمِّ القرى» مذ سَرَّها نبأٌ

أمستْ بها من عظيمِ الفخرِ زيناتُ

وغَرَّدتْ في رباها كلُّ ساجعةٍ

لها من الأُنسِ أفراحٌ ونَغماتُ

وبشّر بقية المدن السورية والشامية بالخلاص وبقدوم العون السريع والنصر المؤزر على يد القائد المظفر:

يا أهلَ «حمصَ» ومن أضحى لدى «حَلَبٍ»

«وبعلبكةٍ» عمَّتْكُمْ رعاياتُ

عمّا قريب وجيشُ العيدِ عندكمُ

له إغاثاتُ ضغطٍ وانتصاراتُ

معاناة الشعوب العربية

ووصف معاناة الشعوب العربية تحت حكم الأتراك، وفضح سياساتهم وما مارسوه من ظلم وعدوان وحشي وانتهاك للحرمات، فلم يكونوا يرقبون فيهم عهداً ولا ذمة، ولا مبرر لما فعلوه سوى أن الضحايا مواطنون عرب، ومن ثم أتت إشادة الشاعر بقائده المظفر الذي هبَّ غيرة وشهامة وانتقاماً للكرامة العربية:

لا يرقبون بنا إلاًّ ولا ذمّةً

وما لهم في بني الإسلامِ رَقَّاتُ

أفنوا رجالاً بأرضِ الشامِ نعهدُهم

تنعَى مآثرهم في الليلِ زوجاتُ

لا ذنبَ يوجبُ إلاّ كونهُم عرباً

لهم على الدِّينِ والأعراضِ غيراتُ

مالوا عليهم عتوّاً واعتدوا وبَغَوا

وكم لهم بالأذى فيهم لعاناتُ

يا حسرةَ الشامِ مما قد ألمَّ بها

كم قد عرضنَ حالاً لها فيه شكاياتُ

فالسهدُ أخلقَها والظلمُ أغرقَهَا

لها حنينٌ مضامٌ وانتشاقاتُ

والأبيات توثق لحادثة هزّت العرب آنذاك، وهي قيام الأتراك بقتل عدد من حملة الفكر العربي وطلائع نهضته الحديثة، بإعدام أحرار سورية، وكانوا من الناقمين على السياسة العثمانية، وممن تبنى فكرة الانفصال عن تركيا، كما دعوا إلى قيام كيانات عربية مستقلة عن سلطتها، وأدت هذه الحادثة إلى توسيع الهوّة بين الطرفين وعمقت النقمة على الأتراك. وعمد الصحاف إلى ذكر بعض أسماء القيادات التركية التي بغت على العرب، واستهترت بأرواحهم، وأشار في القصيدة نفسها إلى اثنين منهم، الأول «أنور باشا» وهو قائد تركي وعضو في جمعية الاتحاد والترقي التركية، وله دور في خلع السلطان عبدالحميد في العام 1909. وقتل في 1922 بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى. والثاني هو «جمال باشا» القائد العام للجيش العثماني وله الدور الأول في إعدام تلك المجموعة من المواطنين في الشام. ونعى عليهما الشاعر وذمّ أفكارهما وما تبنياه من عقائد:

وليُّهم «أنورٌ» والمشبهونَ له

بئسَ العقائدُ بل بئسَ القياساتُ

وافى «جمالٌ» ومن ولاّهُ فاتّحدوا

على الضلالِ وأغرتْهُ غواياتُ

مبدأ الثورة ضد العثمانيين

ومن منطلق الولاء للشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية ضد الأتراك تبنّى الصحاف مبدأ الثورة ضد العثمانيين، وروّج لها، ودعا الجماهير العربية إلى التحرر من الأتراك ومن حكمهم بل والانتقام منهم، وهجا مرة أخرى اثنين من القيادات التركية التي كان لها أسوأ الأثر على العرب لما انتهجاه من سياسة وحشية وظلم، مكرراً ذمّه لـ «جمال باشا» ومضيفاً شخصية تركية أخرى هي «فخري باشا»: (الرمل)

يا بني العربِ هلمّوا واهجموا

ليس يأتي الموتُ إلاّ بالأجلْ

نجمُ «فخري» و«جمال» قد أفلْ

واختفى جيشُهما بل واضمحل

يا بني الأوطانِ هبّوا عَجَلاً

إنّ لِله جنوداً من عَملْ

جندلوا «فخري» وهاتوا جندَهُ

بينَ كلِّ الخلقِ يعروهُ الخجلْ

وتبريراً لمبدأ الثورة وتحريضاً عليها، علّل الأسباب والدواعي لذلك الخطاب، وهي تعود في طبيعتها إلى أبعاد اقتصادية، فيشير إلى أسلوب النهب الذي اعتمده «فخري باشا»، وتضييقه الخناق على الناس في أرزاقهم، كما عاب عليه تسخيره النساء في الخدمة، وهذا أمر جلل من منظور الرؤية العربية:

أفلسَ المشؤومُ في أسرتِهِ

مُذْ رأى المخبرَ حَيّاً ما وصلْ

نَهَبَ التمرَ مع الأموالِ في

«طيبةَ» الغراءَ... أعيتْهُ الحِيَلْ

رتَّبَ القرصين للشخصِ ولم

يعطِهِ إلاّ بإجراءِ العملْ

خدَّم النسوة من خِسَّتِهِ

جهةَ السكّةِ والأمرُ جَلَلْ

ووصف الأبعاد الاجتماعية الناجمة عن تلك السياسات الخرقاء، وما تبعها من غلاء في الأسعار وانتشار الفقر والمجاعة التي أدّت إلى وفاة الكثير من الناس في الوقت الذي كان ينعم فيه هو بخيرات البلاد:

أصبحَ القوتُ لديهم غالياً

فشكوا للهِ من ظلمٍ حَصَلْ

وتُوفي بالطَوَى أكثرُهُمْ

كمْ أماتَ الجوعُ قِرْماً وقتلْ

فغدوا في حسرةٍ ترهقُهُمْ

وهو في أرغدِ عيشٍ ما سَأَلْ

وبسبب تنامي مشاعر الإحباط واليأس عمد الصحاف إلى بثّ الأمل في نفوس الناس وتأميلهم بانقشاع تلك المحنة، وإن الله لن ينساهم، وسيزيل عنهم تلك الغمامة لأنهم في أرض الرسالة، وجيرة للرسول (ص)، وفي حماية الخالق:

يا بني «طيبة» لا تأسَوا ولا

تحزنوا من جَوْرِ خطبٍ قد نزلْ

فسيمحو حو اللهُ عن أوطانِكم

ذلكَ الباغي ومشؤومَ العملْ

إنَّما جيرانُ «طَهَ» المُجتَبَى

في حِمَى اللهِ ومُخْتارَ الرسلْ

والأبيات بما تتضمنه من أبعاد اقتصادية واجتماعية تكتسي قيمة وثائقية؛ فهي سجل حافل يؤرخ للحياة الحجازية في ذينك الجانبين، ويوثق لما عانته البيئات العربية من سياسات جائرة وإحباطات وظلم اجتماعي ابان الحكم العثماني





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً