لماذا اختارت إدارة الاحتلال في العراق نظام الدائرة الكبرى الواحدة التي تعتمد مبدأ النسبية في توزيع المقاعد؟ قبل الإجابة لابد من التذكير بأن هذا النظام على رغم ديمقراطيته الشكلية يعتبر من أسوأ الأنظمة نظراً لكثرة سلبياته. فنظام الدائرة الواحدة والفرز النسبي للناخبين يهدر الكثير من الأصوات، ويعطل إمكانات حصول لائحة واحدة على غالبية مطلقة في البرلمان ويفتت الكتل النيابية إلى عشرات، الأمر الذي يزيد من صعوبات الاتفاق على موقف موحد من دون تقديم تنازلات قاتلة.
نظام الدائرة الواحدة النسبي خطير وسيئ في آن. فهو من جهة يحرم مئات آلاف الأصوات من حق التمثيل البرلماني لأنها لم تحصل على الوحدة (النسبة المطلوبة) للفوز بمقعد. وهو من جهة أخرى يحرم الكتلة الكبيرة من حق صنع السياسة أو تشريع الأنظمة وتعديل الدستور، لأنها تحتاج إلى غالبية مطلقة وهذا من الصعب تحقيقه في ظل برلمان مفكك إلى وحدات صغيرة من التكتلات النيابية. والمحصلة في النهاية تكون تعطيل الصفة التشريعية للبرلمان أو على الأقل إضعافها وإخضاعها للمساومات وابتزاز الكتل الصغيرة. وبالتالي تكون المحصلة النهائية إضعاف السلطة التشريعية وتقوية السلطة التنفيذية. فيصبح البرلمان مجرد منبر حر (هايد بارك) تتقاتل فيه الكتل بينما السلطة التنفيذية تتحرك بحرية مستفيدة من ذاك الضياع والصراخ وتبادل الشتائم بين التكتلات النيابية.
كانت الكثير من الدول الأوروبية تعتمد سابقاً نظام الدائرة الواحدة، والتمثيل النسبي للوائح والقوائم ولكن معظم الدول أو كلها تقريباً أقلعت عن هذا النظام لأنه في النهاية يعطل دور البرلمان ويضعف موقع السلطة التشريعية في توازنات الدولة.
الآن اعتمدت غالبية الدول الأوروبية - التي هي أصلاً متجانسة دينياً وطائفياً ومذهبياً ومتساوية اجتماعياً في نمو مناطقها - أنظمة بديلة تحد من تفكك الكتل وتسهم في تشكيل غالبية قادرة على التشريع وأخذ القرارات والمبادرات. فالأنظمة البديلة التي اعتمدتها غالبية الدول الأوروبية مالت إلى تبني فكرة الدائرة الصغرى، أي دائرة واحدة لمقعد واحد. ونظام الدائرة الصغرى يقوم على فكرة الجغرافيا (لا المذهب ولا الطائفة ولا القبيلة) والأكثرية (من يحصل على عدد أكبر من الأصوات يفوز بالمقعد الذي يمكن أن يتنافس عليه عشرات المترشحين). وبعض الدول اعتمد نظام الدائرة الوسطى (لا كبيرة ولا صغيرة) الذي يشجع على الائتلاف بين مجموعة مترشحين، ويفوز كل من نال من الأصوات أكثر من الآخر.
لجأت أوروبا وحتى الولايات المتحدة إلى أنظمة انتخابية تعتمد الولاية كوحدة سياسية أو الدائرة الصغيرة للتهرب من عملية هدر الأصوات أو تفتيت الكتل النيابية إلى عشرات المجموعات الصغيرة يصعب على أي طرف جمعها في قرار واحد من دون تنازلات ومساومات تعطل حق التشريع أو تعديل الدستور وتزيد من قوة تدخل السلطة التنفيذية.
والسؤال: لماذا اختارت إدارة الاحتلال الأميركي في العراق صيغة استغنت عنها أوروبا منذ زمن طويل ولم تأخذ بها الولايات المتحدة أساساً؟ ولماذا فضلت واشنطن الدائرة الكبرى والنسبية في بلد غير متجانس مذهبياً وطائفياً وقبلياً ومناطقياً وغير موحد في درجة نموه الاجتماعي؟ الجواب ليس بحاجة إلى ذكاء. فالمقصود من المسألة تكريس الانقسامات وهدر الأصوات ومنع وصول غالبية مطلقة إلى البرلمان، وإضعاف السلطة التشريعية وتقوية السلطة التنفيذية التي يديرها الاحتلال مباشرة أو من وراء الكواليس.
العراق الآن يمر في حالات من الفوضى والفلتان الأمني والاضطراب السياسي الذي سببه الاحتلال بعد تقويضه للدولة... ولأنه غير موحد ومنقسم أهلياً في خياراته الوطنية كان يفضل أن تعتمد الدائرة الصغرى كأساس تنظيمي للتصويت أو تعتمد المحافظة (18 محافظة) كدائرة متوسطة بين النظامين النسبي (الكبرى) والأكثري (الصغرى).
مثلاً، لو أرادت إدارة الاحتلال اعطاء صفة فعلية للسلطة التشريعية لكان بإمكانها التشجيع على اعتماد مبدأ 275 دائرة صغرى (لكل دائرة مقعدها) أو مبدأ المحافظة (لكل محافظة 15 مقعداً مثلاً). فهذا النوع من التوزيع الجغرافي العادل يعطي فرصة للقوى السياسية الكبيرة التي تملك شعبية أن تعزز مواقعها في البرلمان وتلعب دورها في صوغ القرارات التشريعية التي تحد من ايغال السلطة التنفيذية وتراقب أنشطة الحكومة والقوى المتعاملة أو المستفيدة من الاحتلال. إلا أن الواضح من الموضوع هو أن واشنطن لا تريد لهذه الكتلة الشعبية من تمثيل نفسها بشكل يتساوى حجمها السكاني مع كمية المقاعد البرلمانية.
يتنافس الآن على المقاعد 107 قوائم و73 حزباً وهذا يعني أن أكبر كتلة برلمانية لن تستطيع أن تسيطر على أكثر من 60 إلى 120 مقعداً، الأمر الذي يضطرها إلى عقد تحالفات سيئة وقاتلة سياسياً. وهذا بالضبط ما تريده إدارة الاحتلال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 835 - السبت 18 ديسمبر 2004م الموافق 06 ذي القعدة 1425هـ