العدد 833 - الخميس 16 ديسمبر 2004م الموافق 04 ذي القعدة 1425هـ

البدء في الطفولة

الفارابي وقصة «المدينة الفاضلة» (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لماذا ألف الفارابي (أبونصر محمد بن طرفان بن اوزلغ) كتابه عن «المدينة الفاضلة»؟ الأجوبة كثيرة. منها من يقول ان الدافع هو اعجابه بالفلسفة اليونانية عموماً وكتاب «الجمهورية» لصاحبه افلاطون خصوصاً. وهناك من يقول ان كتابه هو نوع من المحاكاة أراد من خلاله تقليد افلاطون والنسج على منواله. وهناك من يعتبر ان كتابه هو مجموعة من النصائح اراد قولها من المخيلة، وبالتالي استلهم أفكار «الجمهورية» في السياسة، وأعاد صوغها وفق تصورات خاصة منسجمة مع بيئته الثقافية.

أجوبة الاعجاب والمحاكاة والتقليد والتخيل تعطي فكرة جزئية عن الاسباب التي دفعت الفارابي إلى الجلوس وتأليف كتابه عن آراء أهل «المدينة الفاضلة». فالكتاب يتجاوز عصره ولكنه في الآن نتاج بيئة سياسية - ثقافية اجتمعت في وقت محدد، ووضعت الاسس النظرية لتفكير الفارابي الذي يقوم اصلاً على ثنائيات توفيقية. فالفارابي اشتهر في التوليف بين المتناقضات ومحاولة جمع التعارضات في ثنائيات تبحث عن المشترك. فهو مثلاً حاول التوفيق بين الشريعة والحكمة (الفلسفة)، وحاول التوفيق بين الحكيمين افلاطون وارسطو، وكذلك حاول التوفيق بين العلوم فاحصى مدارسها في ثمانية أقسام ورتبها وفق درجات تبدأ باللسان والمنطق وتنتهي في طبقات من العلوم الطبيعية والالهية والمدنية.

من أين جاء هذا الفكر (المنهج) التوفيقي لباحث عن المعرفة؟ ولماذا اختار الفارابي هذا المنهج التوليفي بين المتناقضات والثنائيات؟

المسألة معقدة ويصعب اكتشافها من خلال قراءة كتب الفارابي فقط، اذ لابد من قراءة شخصيته وتاريخه ومصادر علومه والبيئة الثقافية - السياسية التي عايشها عن قرب أو عاصرها عن بُعْد. فالفكر في النهاية ليس مخيلة أو مجموعة تصورات تأتي إلى المفكر من خارج البيئة والعصر. وكذلك لا تكفي المعرفة النظرية للاجابة عن مشكلات عملية يمر بها عصر الكاتب وتتعرض لها البيئة المتغيرة التي يتكيف معها سلباً وايجاباً.

الاجابة عن سؤال لماذا فكر الفارابي بكتابة «المدينة الفاضلة» تتجاوز كثيراً حدود الكلام النظري الذي يقول إنه اطلع على افلاطون ونسج على منواله وغيّر بعض أقواله وأعاد تأليف الكتاب وفق ظروف البيئة التي تهيمن عليها الثقافة الإسلامية.

هذا جانب من الاجابة. وهو يرد على السؤال من ناحية نظرية بينما الواقع يشير الى دوافع كثيرة أملت على الفارابي تأليف كتابه عن «المدينة الفاضلة» حين بلغ السبعين من عمره وقبل سنوات قليلة من رحيله عن دنياه. فالكتاب الذي يحتوي على مجموعة آراء ليس نظرياً على رغم انه يكتفي بالجوانب الفكرية. كذلك الكتاب يقوم على التوفيق بين الثنائيات إلا ان البُعْد الآخر للمسألة يتجاوز المعرفة النظرية ويجاوب من جوانب أخرى على المشكلات العملية التي يمر بها عصره وزمنه.

المنهج لا يأتي هكذا وإنما يتركب من مجموعة معارف يتداخل فيها البحث النظري بالتجربة والواقع العملي. ولذلك لم يكن منهج التوفيق بين الثنائيات سوى صورة عن واقع الفارابي نفسه وتاريخه الشخصي الذي دمج بين ثنائيات كثيرة حاول خلالها ابن فاراب الفقير توليفها بغية ان يتوصل بها ومعها إلى نوع من الانسجام والتناغم. وصورة الفارابي حين بلغ السبعين من عمره تتمثل نظرياً في كتابه عن «المدينة الفاضلة»، فهذه المدينة أسس الفارابي عمرانها وأبنيتها وتخيل رجالها وأشخاصها بعد تجربة مريرة صارع خلالها عقبات كثيرة وواجه فيها الكثير من التقلبات والانقلابات.

لماذا كتب الفارابي عن «المدينة الفاضلة»، هو سؤال يتعلق بتاريخ المنطقة التي عايشها ورافقها طوال سبعة عقود من عمره. فالمدينة هي المثال النظري الذي تخيله الفارابي ولكنها ايضاً نتاج ظروف البيئة التي تربى ونشأ ونهل من علومها ومعارفها... وكذلك - وهذا هو المهم - أنها تعكس في النهاية تاريخ الكاتب وحياته الشخصية ونموه العقلي وتداخل مداركه وسعة معارفه وأخيراً خصوصيته التي لا يمكن تغييبها عن تلك الآراء التي قال بها أهل «المدينة».

حلول الفارابي توفيقية. ومنهج تفكيره اعتمد مبدأ التوفيق بين الثنائيات وتطويع التناقضات ومحاولة السيطرة عليها بحثاً عن الانسجام والتناغم. فمن أين جاءت هذه التوفيقية وكيف توصل اليها الفارابي حتى يبادر الى الجلوس وتأليف كتابه عن «المدينة الفاضلة».

الأجوبة معقدة ومركبة بين العام والخاص وبين النظري والعملي وبين المخيلة والحاجة وبين البيئة والشخص. والشخص هنا هو الفارابي الذي ولد اصلاً من «ثنائية». فوالده فارسي وأمه تركية. وهذه الولادة من أسرة مركبة في تكوينها اللغوي والثقافي لابد لها من ان تكون تركت آثارها النفسية في تربية طفل عاش في ظل أسرة فقيرة ومعدمة تحب العلم وتطمح إلى تطوير حالها الاجتماعية بالاعتماد على تثقيف الاولاد والاستفادة من مواقعهم ووظائفهم في المستقبل. هذا النوع من الثنائيات الطبيعية (الأب فارسي والأم تركية) والثنائيات الاجتماعية (أسرة فقيرة تطمح للتقدم الطبقي من خلال اكتشاف فضائل العلوم) ترك لاشك آثاره في لاوعي الطفل، وصقل لديه موهبة التوفيق بين الثنائيات في عمر مبكر وقبل ان يكبر الطفل ويقرأ الفلسفة اليونانية وكتاب افلاطون في السياسة (الجمهورية). فالجمع بين الوالدين مهد الطريق لكتاب الجمع بين الحكيمين (افلاطون وارسطو).

الثنائيات اذاً بدأت مع الفارابي منذ ولادته وهذا ما انعكس على شخصيته وتطوره النفسي - الثقافي واعطاه فرصة (افضلية) على غيره لاكتشاف الآخر ومعرفة حدود الانقسام وعدم المبالغة في التطرف أو التعصب لجنس أو لغة أو تقليد أو مذهب. فهذه كلها اجتمعت مصادفة في هذا الطفل منذ ولادته. فهو مع أمه التركية ووالده الفارسي. وهو تعلم اللغتين وتشبع من الثقافتين. وهو ايضا من اسرة مسلمة تؤمن بالله ورسوله وتقرأ الكتاب المنزل بالعربية ولا تفرق بين فارسي وتركي إلا بالتقوى. وهو ذاك الطفل الفقير الزاهد بالدنيا والمحب للمعرفة والتحصيل العلمي. فهذه الثنائيات نسجت مخيلة الفارابي منذ طفولته فشب على الزهد بالدنيا ومحبة الحكمة (العقل)، وهذا التناقض بين الزهد والعقل دفعه الى التصوف على طريقته الثنائية الخاصة فجمع التصوف والعقل في آن، فاشتهر الفارابي بأنه من مدرسة التصوف العقلي وهي تختلف في طرق حياتها وعيشها عن المدارس الصوفية الأخرى.

فالفارابي زاهد في الدنيا ويميل نحو العزلة ولكنه يتطلع إلى الرفعة والتحصيل العلمي لكسب العيش من دون الحط من كرامته أو التزلف للسلطان. وهذه سيرة معقدة طبعت شخصيته وأعطته تلك المخيلة التي انتهت إلى تصور أبنية «مدينة» ليست من عالمه.

قصة «المدينة الفاضلة» طويلة ولا يمكن قراءة فصولها إلا من خلال فصول حياة الفارابي وظروفه والبيئة الثقافية - السياسية التي عايشها عن قرب أو عاصرها عن بُعْد... واجتمعت كلها في ثنائيات متضاربة أو متآلفة لتصنع هذا الشخص الذي قرر وهو في السبعين من عمره الجلوس والبدء في تأليف كتابه عن آراء أهل المدينة. كيف بدأت القصة؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 833 - الخميس 16 ديسمبر 2004م الموافق 04 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً