العدد 832 - الأربعاء 15 ديسمبر 2004م الموافق 03 ذي القعدة 1425هـ

الاستخبارات الأميركية: إصلاح أم عودة إلى قديمها؟

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

قبل أيام قليلة وافق الكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب والشيوخ على مشروع قانون لإعادة تنظيم أجهزة التجسس والاستخبارات الأميركية الخمسة عشرة، التي تبلغ موازناتها نحو 400 مليار دولار سنوياً.

القانون يقول: ان الهدف الأساسي هو إصلاح «هذه الأجهزة» لناحية سدّ الفجوات في أدائها وآليات التنسيق بينها وإنشاء منصب «مدير عام» لها، تتقاطع عنده كل تقاريرها ومعلوماتها ليقوم «بتحليلها وتفسيرها»، ثم رفعها إلى أهل القرار.

لكن الخلفية التي حكمت هذا التشريع وما حواه نصّه، بصورة صريحة أو مبطّنة، فضلاً عما سبقه ورافقه من خطوات وتوجهات تشير كلها إلى ان المسألة تتجاوز الإصلاح الإجرائي المزعوم - على ضرورته ووجاهته أميركيا - لتطول وظائف ومهمات هذه الأجهزة وإعادة صوغها بما يتفق وسياسة إدارة بوش الخارجية القائمة على مبدأ «الضربات الاستباقية».

الملف الاستخباراتي كان موضوع جدل أميركي منذ سنوات، وتحديداً منذ نهاية «الحرب الباردة». آنذاك كان المأخذ ان هذه الأجهزة وبالذات وكالة الاستخبارات المركزية، التي أبصرت النور أيام الرئيس هاري ثرومان بعد الحرب العالمية الثانية، تحتاج إلى نفض وترميم. بل ربما إلى إعادة تصويب وتوجيه، على أساس انها باتت من الماضي، ولاسيما انه فاتها رصد الانهيار السريع للاتحاد السوفياتي، فضلاً عن انه حصلت فيها اختراقات تجسس مضاد، دام لفترات طويلة، واحدث أضراراً بالغة في حصانة الأمن القومي الأميركي؛ مثل قضية الجاسوس الإسرائيلي جونشان بولارد والجاسوس الأميركي الجنسية الذي عمل نحو عقدين من الزمن لصالح موسكو وكان من العاملين في «سي اي ايه».

آنذاك تعددت الآراء فتراوحت بين مطالب بإلغاء الوكالة بالكامل لانتفاء الحاجة إليها بعد زوال العدو السوفياتي اللدود، وبين الدعوة إلى تحديد دور جديد لها، يتلاءم وظروف الواقع الدولي الجديد، وخصوصاً الواقع الاقتصادي ومناخات العولمة.

وبقيت الأمور على هذه الحال إلى ان وقعت حوادث 11 سبتمبر/ ايلول. فازداد انفضاح وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) وازدادت بالتالي الضغوط لعمل شيء ما بخصوصها، لاستدراك النواقص والتصدي للأخطار الجديدة. ثم جاءت حرب العراق لتزيد الطين بلّة وتكشف المزيد من العورات في هذا المجال. فضيحة يورانيوم النيجر والشاحنات المتجولة وانابيب الألمنيوم، أشارت إلى خلل عميق في عمل الوكالة. البعض رأى فيه عطباً في الأداء، وآخرون تحدثوا عن وقوعها تحت ضغوط صقور الإدارة - تحديداً نائب الرئيس ديك تشيني - وبالتالي قيامها بتقديم معلومات معلّبة. وفي الحالين وقعت في الخطأ الكبير.

طبعاً كان هذا القطاع، في ضوء ذلك، بحاجة إلى إصلاح. ولاسيما ان لجنة 11/9 التي رفعت تقريرها النهائي في يوليو/ تموز الماضي، أوصت بوجوب حصول مثل هذا الإصلاح. غير ان هذا القانون لم يقتصر على تصحيح الأداء والآليات. بل هو شطح نحو توسيع دائرة صلاحيات الأجهزة الأمنية في الداخل بحيث باتت تلامس تخوم الحقوق المدنية وتهددها، وكذلك نحو تعزيز وتدعيم العمل الاستخباراتي في الخارج، من خلال «تشجيع رجال CIA للقيام بالمزيد من الأدوار التجسسية». ويشار هنا إلى ان الرئيس بوش أصدر، خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، «توجيهاً إدارياً يطلب فيه من CIA تقديم خطة ومهلة، لزيادة عملياتها السرية بمعدل 50 في المئة». كذلك يشار إلى أنه غداة 11/9 ارتفعت أصوات نافذة في الكونغرس - وخصوصاً من بين الجمهوريين - تطالب بإلغاء مفعول الأمر التنفيذي الذي سبق وأصدره الرئيس كارتر بخصوص حظر قيام CIA بالاغتيالات السياسية في العالم. وجاء يومئذ ذلك الإجراء في اعقاب عملية الاغتيال التي دبرتها الوكالة للرئيس التشيلي اليندي. في هذا الإطار كشفت «نيويورك تايمز» قبل أيام عن وجود مشروع استخباراتي سرّي، يجري التداول بخصوصه منذ سنتين، يقوم على نشر نظام جديد من الأقمار الاصطناعية التجسسية، التي يتعذر على الخصوم اكتشافها ورصدها. ويجري تمويل الدراسات والعمل بهذا الخصوص للسنة الثالثة على التوالي. ونجحت الإدارة بتمرير الموافقة في الكونغرس على رغم الكلفة الباهظة للمشروع وعلى رغم اعتراض عدد من أركان الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ. علماً بأن الخبراء أبدوا شكوكهم بفعالية مثل هذه الأقمار. وهي بذلك شبيهة بشبكة «الدرع الواقي» التي أصرّت إدارة بوش على بنائها على رغم كل الاعتراضات، الداخلية والدولية. ومن الواضح ان هذه الشبكات تكمل بعضها وتنضوي في إطار السعي إلى تحقيق هيمنة عسكرية أمنية تجسسية شاملة للكرة الأرضية بكاملها، بحيث تصبح كل ترسانات الآخرين النووية، عديمة الجدوى - بفعل «الواقي» - وكل اسرارهم مكشوفة - بفعل الأقمار - ولو ان الإدارة تزعم، في القانون الجديد بأن كل هذه الإجراءات فرضتها «محاربة الإرهاب» ودرء أخطاره. لكن ذلك لم يطمئن الكثيرين، حتى الأميركيين منهم. فقد سارعت جهات إعلامية ومنظمات حقوق مدنية فضلاً عن مرجعيات أمنية واستراتيجية، على الساحة الأميركية، إلى التعبير عن قلقها جراء هذا الاندفاع تحت مظلة الذرائع الأمنية. فثمة شعور بوجود هوس لدى الإدارة لإحكام سيطرة أميركية شاملة كاملة، على الساحة الدولية. وبالذات منطقة الشرق الأوسط. وهي مخاوف مشروعة تفرضها أدبيات اليمين المحافظ الجديد وسياساته، وخصوصاً حربه على العراق، كما تفرضها التغييرات الأخيرة التي حصلت في صفوف أركان إدارة بوش، بعد فوز هذا الأخير بالانتخابات في نوفمبر الماضي. وتحديداً الخلاص من وزير الخارجية كولن باول و«تطيير» مدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج تينت. وبعده استقالة أو إقالة نائبيه، وتسليم هذه المناصب المفتاحية في القرار الأميركي إلى مسئولين معروفين بولائهم وانتسابهم إلى الخط المتشدد السائد في الإدارة.

في هذا السياق جاء قانون «الإصلاح» الاستخباراتي الذي اقرّه كونغرس تتحكم به أكثرية جمهورية مطواعة للرئيس بوش وسياساته. ومن هنا المخاوف بان يكون «إصلاح» وكالة الاستخبارات المركزية واخواتها، في الواقع عودة أو مقدمة للعودة إلى قديم هذه المؤسسة، التي كان لها دور أساسي، في ما مضى، في تنظيم الانقلابات والاغتيالات السياسية في أكثر من مكان بالعالم. ومثل هذه العودة في الظرف الراهن لن تؤدي إلى أقل من اغتيال المتبقي من هيبة ودور القانون الدولي والأمم المتحدة. وإذا كانت إدارة بوش حريصة فعلاً على تحقيق إصلاح أمني قومي - وهذا من حقها -، فعليها ان تكون حريصة بالمقدار نفسه على تحصين الأمن الدولي ومؤسساته أيضاً. والمفتاح هنا ليس في إطلاق يد الاستخبارات، بقدر ما هو في إعادة النظر في سياستها الخارجية. فيا ليتها تهتم بالإصلاح في هذا المجال، ولو بنسبة ضئيلة من حجم اهتمامها بـ «الإصلاح» الاستخباراتي

العدد 832 - الأربعاء 15 ديسمبر 2004م الموافق 03 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً