في الشهرين الجاري والمقبل تعقد ثلاث دورات انتخابية في فلسطين والعراق وأوكرانيا. الأولى رئاسية والثانية تشريعية والثالثة إعادة انتخاب مرشح الرئاسة. وفي الدورات الثلاث هناك مشكلات تختلف بين مكان وآخر ولكنها كلها تعقد تحت مظلة يطلق عليها: الديمقراطية.
والسؤال هل هذه هي «الديمقراطية» أم هناك تسميات أخرى يمكن اطلاقها لاعطاء فكرة سياسية عن واقع يعاني من الانقسام أو الاحتلال؟
الديمقراطية عموماً فكرة مائعة من الصعب القياس عليها كنموذج واحد وموحد. فالديمقراطية مثلاً في بلد موحد ومتجانس في تكوينه التاريخي وقاعدته الاجتماعية تختلف عن تلك التي يطلق عليها ديمقراطية في بلد مهشم ويخضع للاحتلال أو يعاني من انقسامات أهلية وتخترقه العصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية. فالديمقراطية في بلد اكتملت شروط تطوره وتوحدت هويته وتماسكت مجموعاته في اطار ثقافي مميز تسهم في تطوير قواعد اللعبة السياسية، وتعيد انتاج السلطة في سياق سلمي يعتمد مبدأ التبادل في المواقع بين الدولة والمجتمع. ففي البلدان الموحدة والمتجانسة ينهض الانقسام على أسس سياسية تقوم على فكرة التنوع في البرامج الاجتماعية والاقتصادية، وتأتي الديمقراطية لتنظيم العلاقات وتحديثها من دون اضطرار للجوء إلى القوة لحسم الخلافات. وفي هذا المعنى تصبح الديمقراطية الوعاء السياسي الذي يحتضن التناقضات، ويعيد تأطيرها تنظيمياً في أجهزة واعية تمتلك هيئاتها تصورات واضحة عن الواقع وامكانات تطوره ووسائل تطبيق البرامج من دون كسر إرادة المعارضة أو قهر المخالفين.
أما الديمقراطية في بلد مهشم ويخضع للاحتلال ويعاني من انقسامات أهلية وتكثر فيه العصبيات ولم يتطور بعد ليصل إلى مرحلة الدولة الجامعة فإنها احياناً تسهم في تكريس الانقسامات وتثوير التناقضات والدفع في اتجاه تفجيرها لأن السياسة في هذا البلد ضعيفة، بينما المذاهب والطوائف والمناطق فهي قوية إلى درجة تمنع ظهور قوى تملك تصورات برنامجية عاقلة تطمح إلى تطوير المجتمع من دون انحياز فئوي أو تحزب عصبي. وفي هذا المعنى تصبح الديمقراطية في مثل هذه البلدان من أدوات القهر أو الاستبعاد أو العزل ووسيلة من وسائل الانفراد بالسلطة.
قديماً وصف ابن خلدون في مقدمته العمران (الاجتماع) بأنه يخضع لقواعد العصبية. وبقدر ما تكون العصبيات قليلة وموحدة ومتجانسة تكون الدولة (صورة العمران) قوية ومستقرة وقليلة المشاحنات. وبقدر ما تكون العصبيات كثيرة ومتضاربة وغير متجانسة تكون الدولة ضعيفة ومعرضة للفوضى وغير مستقرة نظرا لتنازع العصبيات وتنافرها.
وفي عصرنا أصبحت الديمقراطية «صورة العمران» فهناك ديمقراطيات وليست واحدة. فاذا كانت العصبيات قليلة تشكلت حالات سياسية واعية تعتمد هيئاتها البرامج والخطط لتطوير المجتمع المتجانس في هويته. واذا كانت العصبيات كثيرة تشكلت حالات من التشنجات تعتمد مبدأ الاستقطاب الطائفي والمذهبي والمناطقي والقبلي لتشكيل هيئات ضيقة الافق وعديمة الدراية في استيعاب الآخر.
وفي هذا السياق يمكن فهم الهياج الذي يضرب الدول النامية أو الساعية للنمو حين يقترب موعد الانتخابات إذ تستنفر العصبيات اسلحتها وتبدأ بالتراشق الكلامي واللفظي تعبيراً عن حالات قلق ومخاوف وذعر تصيب مختلف التكتلات الموروثة خوفاً من السقوط في الاقتراع أو مخافة أن تحصل اختراقات سياسية (ميدانية) من الخصم (الغريم) الآخر. هذا النوع من الهياج لا نجد ما يماثله في دول «متطورة» أو مجتمعات متجانسة استكملت شروط تقدمها الاجتماعي - الاقتصادي. فالانتخابات في مثل هذه البلدان مجرد محطة لاختبار موازين القوى السياسية ومرحلة دورية لابد من المرور بها لامتحان مدى صلة الهيئات بالناس ومدى ابتعادها عنهم. ولذلك تطغى على المعركة الانتخابية صفات التنافس على كسب الاصوات انطلاقا من تسجيل رؤية سياسية ليست بعيدة عن واقع الناس. وأحياناً تستفيد التكتلات السياسية من المخاوف أو الظروف الاقتصادية وتستغلها خدمة لاغراض ايديولوجية غير واضحة... كما حصل في الانتخابات الأميركية الأخيرة. إلا أن المعركة في النهاية تتوقف حين تفرز الاصوات ولا تنزلق الى هاوية الاضطراب والفوضى وربما الاقتتال الأهلي.
المشكلة في البلدان العربية ان الديمقراطية كشكل من أشكال تنظيم السياسة مستبعدة في قواميس معظم الانظمة، واذا اخذت بها بعض الأنظمة فإنها تخضع لواقع المجتمع الذي لم يتجاوز بعد حدود المنطقة والطائفة والمذهب... فتصبح بالتالي مناسبة لتثوير العصبيات بينما الهدف الاصلي من الانتخابات هو محاولة احتواء العصبيات وتقنين السياسة وضبطها في اطار الدستور.
سنشهد قريباً ثلاثة انتخابات في فلسطين والعراق وأوكرانيا... وفي كل بلد تذهب الديمقراطية باتجاه معاكس وتتفاوت الصلة بها بين السياسة والمناطق والمذاهب والطوائف الامر الذي يؤكد مجدداً ان الديمقراطية ليست حلاً برأسه بقدر ما هي وساطة للحل، بينما المشكلة تكمن في الواقع الذي لم ينجح حتى الآن في الانتقال من العصبيات الطبيعية إلى العصبيات السياسية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 832 - الأربعاء 15 ديسمبر 2004م الموافق 03 ذي القعدة 1425هـ