تتجلى في حياتنا اليومية ثقافة التبجيل كنقيض لثقافة التغيير، وثقافة الإطراء كنقيض لثقافة النقد لكبار المسئولين وللزعماء السياسيين القبليين والدينيين، وحتى الزعماء المحليين وأصحاب الأموال والنفوذ. وأضحت الألقاب التي تزجى إلى هذه القيادات والوجاهات تتفرع الى معان تدل على السطوة والثراء والقوة، كل حسب موقعه. وإذا انتقلنا الى الألقاب العسكرية، فقد أضحى العرب اليوم وهم الذين لم يربحوا حربا في تاريخهم المعاصر ضد أعدائهم، أكثر الأمم سخاء في الألقاب العسكرية، فوصلت الدرجة الى مشير لقائد جيش بدائي في دولة صغيرة لم يدخل حرباً في حياته، ويطلق على بلد عربي منكوب بالعسكر بأنه بلد المليون عقيد.
طبعاً لا تقتصر ثقافة التبجيل على الألقاب، فهي تتجلى في معظم أوجه الثقافة والإعلام. فبالنسبة إلى الجزيرة العربية والعراق حيث للشعر الفصيح والنبطي شعبية كبيرة، فان لقصائد التبجيل دوراً مهمَّاً، في رسم هالة على الزعماء وأرباب المال والنفوذ. وتلقى هذه القصائد في حضرة الممدوح، لتضفي جوا احتفاليا يكرس الحضور المتميز للممدوح، ويرفع قامته طويلا وبتوافر وسائل الاعلام الحديثة من صحافة وتلفزيون وإذاعة ومحطات فضائية فإن الطقس الاحتفالي المحلي يتحول الى طقس احتفالي وطني قومي، ويعاد بثه لتكريس الصورة المبجلة، وتلعب الزيارات مناسبات مهمة لاستحضار صور البطولة والحكمة والسخاء والتفرد للقائد. كما تتحول المناسبات الى مناسبات لاستنفار الشعب، والتبجيل للزعيم، واستحضار سيرة حياته ومواقفه وبطولاته. وتربط كل إنجازات البلاد به وتحول الهزائم الى انتصارات والانكسارات الى وثبات.
وهناك مواسم لترويج ثقافة التبجيل خلال الجولات على أنحاء البلاد، إذ تقام احتفالات لاستقباله بالزينات وحشد أبناء المنطقة على طول الطريق التي يسلكها، وحشد كل الشخصيات لاستقباله، وتقام الاقواس التي تحمل عبارات الترحيب والولاء وتردد الهتافات بحياته وتقسم الجماهير (بالروح بالدم نفديك يا.....) وترفع صور في كل مكان.
لقد تطورت تجربة بعض الأنظمة الشمولية العربية، لتقيم اللوحات الضخمة على جدران المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والطرقات والشوارع، بل أقيمت النصب التذكارية والجداريات، وحتى التماثيل العملاقة في مداخل المدن وأمام الثكنات العسكرية والمؤسسات المهمة.
يمكننا الاستطراد طويلا في استعراض تكريس ثقافة التمجيد لدى الأجيال الصاعدة. فصور القادة تتصدر الكتب المدرسية من الابتدائي حتى الجامعي، وتدرس سيرهم في التاريخ والمطالعة والقصص. بل ان الزعيم يتجلى كمثال لكل المهن فهو المحامي الأول والجندي الأول والقاضي الأول الى آخر القائمة، تدرس أقواله في مختلف المواد المدرسية في الطب والهندسة والزراعة والحقوق والتاريخ الخ. انه نبراس لهذا الجيل وكل الأجيال المقبلة.
إذ إن إرادة الله لا راد لها والموت قهار، فإنه إذا بدرت علامات ضعف ودنا الأجل، فإنه تجرى عملية مزدوجة من غسل دماغ الشعب. فمن ناحية يصور بأنه ضرورة لحياة الأمة واستمرارها وان فقدانه كارثة، والشعب سيتم بفقده، وقد رأينا جنازات تتحول الى مناحات للشعب كله، اذ تتحول هستيريا غير عقلانية، وفي الوقت ذاته تجري التهيئة لخلف وهو عادة من صلبه. وان الخلاص على يديه لأنه الأمين على تركة سلفه، وانه ضمانة الاستمرار في المسيرة لأنه وريثه الشرعي ويحمل صفاته الجوهرية. وعادة ما يجري إعداد الخلف على صورة السلف.
هذه الثقافة المرضية دخيلة على الثقافة العربية، وقد يكون منبعها الولاية العثمانية المديدة على البلدان العربية، لكن أنظمة ما بعد الدولة العثمانية، أنظمة الدولة الوطنية المستقلة، ذهبت بهذه الثقافة المريضة بعيدا جدا، ووسعتها وعمقتها وعقدت طقوسها. وفي الوقت الذي اكتسبت فيه بلداننا العربية ومجتمعاتنا العربية قدرا معقولا من الحداثة سواء في بناء الدولة أو أنظمتها والأخذ بالكثير من جوانب الحياة الحديثة، فإن ثقافة التبجيل هذه تستحضر الماضي والقيم التي لا أساس مادياً لها في المجتمع، لتشكيل النقيض لثقافة التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 831 - الثلثاء 14 ديسمبر 2004م الموافق 02 ذي القعدة 1425هـ