تستعد اوكرانيا لإعادة المشهد الانتخابي بعد ابطال المحكمة العليا الدورة الأولى بدعوى وجود عمليات تزوير للإرادة الشعبية. اوكرانيا الآن تستعد لإعادة إنتاج صورة الواقع المنقسم مناطقياً ومذهبياً بعد أن نجحت التدخلات الأجنبية (الأميركية - الأوروبية) في اثارة الشكوك بشأن صحة نتائج الانتخابات الرئاسية بين مرشح المعارضة المدعوم من الغرب ومرشح الدولة المدعوم من روسيا.
إعادة المشهد الانتخابي كان البديل (المنطقي والواقعي) عن وضع مهشم زادت التهم المتبادلة بالتزوير من مفاقمة تداعياته الأهلية. ولو لم تتوصل الأطراف المتخاصمة إلى الاتفاق على صيغة «لا غالب ولا مغلوب» لكان بالإمكان ان تنزلق اوكرانيا إلى هاوية الاضطراب السياسي وربما انفجار الحال الأهلية بين شرقية (ارثوذكسية) وغربية (كاثوليكية).
الاتفاق على إعادة تكرار تجربة الانتخابات انقذ الموقف القابل للانفجار من انهيار أمني شامل كان من المقدر له ان يجذب القوى الإقليمية والدولية إلى مواجهة سياسية في اوكرانيا لا يعرف مداها ولا نهايتها.
لكن السؤال لايزال مطروحاً على طاولة البحث. هل إعادة تكرار المشهد الانتخابي ينهي مشكلة مزمنة تتصل بعمق التاريخ والجغرافيا وهوية الدولة؟
الجواب يستبعد مثل هذا الاحتمال وذلك لأسباب كثيرة منها أن أوكرانيا هي من الدول المركبة سياسياً بين مقاطعات غير موحدة في تكوينها الاجتماعي وليست متجانسة مذهبياً. فأوكرانيا في حدودها الحالية لم تكن موجودة في الجغرافيا السياسية. والهيئة التي ظهرت بها الآن هي تلك الموروثة عن زمن الاتحاد السوفياتي. وفي العهد السوفياتي لم تكن الخرائط الجغرافية - التاريخية ذات قيمة لأن ترسيم الحدود الفاصلة بين الجمهوريات السوفياتية كان يتعدل دائماً وفق تصورات القيادة وبحسب النموذج السياسي الذي كان يقرره الكرملين. فالخرائط كانت سياسية ولم تكن تاريخية جغرافية وخضعت مراراً إلى تغييرات ايديولوجية تتوافق إلى حد كبير مع رؤية المركز وكيفية إدارته لأطراف الاتحاد وجمهورياته.
وبسبب الطابع الايديولوجي للعهد السوفياتي السابق كانت القيادة تعيد النظر في حدود الجمهوريات فتقطع اراضٍ من هذه وتضمها إلى تلك ثم توسّع دائرة جمهورية وتضّيق دائرة أخرى وذلك بحسب الظروف السياسية. ولذلك لم تكترث القيادة السوفياتية السابقة لعوامل الدين واللغة والمذهب والتكوين التاريخي أو الهوية القومية حين كانت تقسم الجمهوريات أو حين تعيد النظر بحدود تلك الجمهوريات. دائماً كانت تختفي جمهوريات وتظهر أخرى بحسب الصيغة الايديولوجية (السياسية) للمركز وقيادة الحزب.
حتى في عهد الرئيس جوزيف ستالين تعدلت صورة جمهوريات الاتحاد السوفياتي مراراً وكانت التغييرات تخضع أحياناً لمزاج الزعيم ورؤيته للمسألة القومية. وكثيراً ما غيّر ستالين تعريفه للقومية فمرة يدخل الدين كأساس للقومية ومرة يخرجه، ومرة يضيف اللغة كأحد مكونات الهوية القومية ومرة يخرجها. وأحياناً يأخذ في الاعتبار عامل الجغرافيا وأحياناً يلغيه ثم يغلّب الجانب التاريخي في تكوين المسألة القومية وبعد فترة يسقط التاريخ من حساباته. وهكذا تغيرت القوميات بحسب التعديلات التي كان يدخلها ستالين على مفهومه الخاص للمسألة. ومع كل تعديل نظري كان يعاد النظر في خريطة الجمهوريات وحدودها السياسية.
أدى هذا العبث النظري في المسألة القومية إلى بعثرة شعوب المناطق الملحقة بالمركز الروسي وأسهم في صراعات وحروب أهلية ومشكلات جرفت معها آلاف القتلى وآلاف الضحايا والعائلات التي كانت تتشرد أو تجبر على النزوح من هذه المنطقة أو تلك. ويمكن القول إن فترة ستالين ازدهرت بسياسة الإسكان المؤقت وأحياناً بإجبار مئات آلاف الناس من الانتقال من جمهوريات الشمال إلى الجنوب ومن جمهوريات الجنوب إلى الشمال بذريعة ان سياسة تحريك الناس تسهل عملية الاندماج وتساعد على صهر شعوب الاتحاد السوفياتي في بوتقة سياسية واحدة وهوية واحدة.
وضمن هذا الإطار يمكن الآن فهم المشكلة التي تعاني منها دولة مركبة من مجموعات غير متجانسة اطلق عليها جغرافياً أوكرانيا ولكنها في الحقيقة ليست موحدة في تكوينها التاريخي واللغوي والمذهبي والمناطقي. فأوكرانيا الآن هي دولة مؤلفة من مجموعة مناطق لا تجمعها هوية مشتركة. وهذا الاختلاط المصطنع يفسر انعدام الثقة الموجود بين النسيج الاجتماعي الذي تتألف منه الدولة. فكل فريق يشك بالآخر ويعتبر نفسه هو الرابح والآخر هو الذي أقدم على تزوير إرادة الناس.
إعادة المشهد الانتخابي في أوكرانيا ربما ساعد على تأجيل انفجار الازمة إلا أن صورة الواقع الذي تتركب منه الدولة لاتزال على حالها... وتكرار تجربة انتخابات الرئاسة ربما لن يعدّل من واقع الصورة المهشمة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 831 - الثلثاء 14 ديسمبر 2004م الموافق 02 ذي القعدة 1425هـ