فينوس خوري غاتا، روائية وشاعرة، وصل عدد مؤلفاتها المتنوعة بين الشعر والرواية إلى 40 كتابا، كتبتها بلغة فرنسية وروح لبنانية خالصة. كل أحداث حكاياتها مستقاة من العالم العربي، الذي تؤكد أنه لم يغادرها أبدا وأن عيناها تقفز في كل مرة تشرع في الكتابة لتعبر البحر الأبيض المتوسط. تعود بها إلى بشرّي وإلى شجر القراص الذي كان موضوعا لرواية ثم لديوان شعر.
لا تكتب العربية، تقول إنها تركت العربية فتركتها اللغة أيضا، الحديث معها كان شيقا، لولا الصعوبة التي واجههتها لتتحدث العربية. جاءت كل عباراتها مازجة الإنجليزية من جهة، ثم الفرنسية التي وجدت صعوبة في فك طلاسمها، والعربية التي واجهت خوري مشقة وجهدا في استخدامها.
حتى قبل سفرها إلى باريس، كانت خوري متألقة كشاعرة وناقدة وروائية. شاعرة بدأت، ثم صحافية وكاتبة في النهار. في باريس تمكنت من أن تحول كل آلامها وأوجاعها إلى نتاج أدبي جميل جعلها أحد أهم الكتّاب الفرانكفونيين، وكما أكدت «كان أمامي خياران، إما الانتحار أو الكتابة». ترجمت كتبها، التي وصل عددها إلى 40 كتابا تنوعت بين الرواية والشعر، إلى الإنجليزية والفرنسية والسويدية والإغريقية والكورية والتركية والألمانية والإيطالية وأخيرا إلى العربية.
حازت جائزة أبولينير، وجائزة مالارمه، وجائزة جمعية أهل القلم، وهي تسهـم في تحرير بعض الصحـف والمجـلات الأدبية في فرنسا.
«الوسط» التقت فينوس خوري على إثر استضافتها من قبل مركز الشيخ ابراهيم للثقافة والبحوث لتحيي أمسية شعرية أقيمت أخيرا ضمن فعاليات ربيع الثقافة 2009، فكان الحوار التالي:
الأب القاسي، الأم التي تقتلع القراص، الأخ «فيكتور» الذي يكتئب ويتجه للمخدرات ثم يفقد قدرته على الكتابة، يأخذك للفرنسية ثم تكتبينه في «بيت على حافة الدموع». سعيد عقل وإيمانه بالشاعرة الصغيرة «الحلوة»، الزواج الثاني، لبنان والضيعة البعيدة، باريس والأجواء الدبلوماسية ... كيف صنع كل ذلك فينوس خوري؟
- فيكتور كان أول من أعطاني الكتابة، لم يعد قادرا عليها بعد أن أودعه والدي في مستشفى الأمراض العقلية فكتبت بدلا منه. ربما لو واصل هو ما كتبت أنا، كتبت لأنه توقف. الآن وبعد 20 رواية، شعرت أنه يجب أن أحكي قصته في «بيت على حافة الدموع». كنت خجلة من نفسي لأنني لم أستطيع أن أفعل له شيئا، وحين وصلت إلى بيروت وجدت أن أختي مي منسي، الكاتبة الصحافية، كتبت قصته أيضا.
بعدها عملت صحافية في صحيفة النهار، كان ذلك منذ 40 عاما وحين كنت لا أزال طالبة جامعية. كنت أكتب باللغة العربية لكن العربية بعدها تركتني حين تركتها أنا، أخذت منها روحها وشكلها وأدخلتهما في اللغة الفرنسية. في فرنسا يقولون إنني جمعت اللغتين في لغة واحدة.
في كتابي الأخير الذي طبعت منه الآن 70 ألف نسخة «سبع حجرات للمرأة الزانية»، والذي استقيت أحداثه من واقعة شهدتها خلال زيارة لإيران، كنت هناك مع أدونيس بدعوة من السفارة الفرنسية. مررنا بقرية شهدنا فيها عملية رجم لامرأة. كانت المرأة ترجم وكأنها حية أو أفعى. لم تتركني القصة حتى بعد سفري، فقررت أن أكتبها حتى لو جاءت كقصة قصيرة لكنني انتهيت برواية. كان يجب أن أكتبها لأن القصة جعلتني أعاني كثيرا ربما لأن والدي كان قاسيا وكذلك كان زوجي الأول، لذا لم أتمكن من تحمل الأمر، شعرت بثورة داخلية.
أما سعيد عقل فكان أول من شجعني على الكتابة، التقيت به ولم يكن يعرفني، ذهبت إليه وقلت له أنت سعيد عقل وأنت شاعر مهم وأنا أعرف أشعارك، فقال لي أنتي مين يا حلوة، أخبرته إنني أم لثلاثة أطفال وإنني أكتب الشعر، فقال لي «فرجيني شعرك» وحين عرضت عليه أشعاري أخذهم معه، وبعد 4 أيام أخبرني أن أشعاري سوف تنشر.
كل محطات حياتي بدت وكأنها توجهني نحو الكتابة، زوجي الأول جعلني أعيش بشكل «كثير منيح»، لكنه لم يكن يحب الكتب، ليس كذلك بالضبط، لكنه كان يكره فكرة أن أعطي حديث لمجلة أو أن يأتي صحافي إلى المنزل، فشعرت بأنني أختنق معه. تطلقنا وتزوجت من طبيب فرنسي يحب الكتابة والكتب ويحب الفنانين وقريب جدا من ميرو وكل الرسامين الكبار الذين كانوا يترددون على مستشفاه. فتح لي باريس، قدمني لكبار فنانيها وشعرائها، الذين أحضرتهم إلى المنزل. مات بعد 9 أعوام. أنا حياتي كلها تمت بهذا الشكل، كلما أحب شيئا يموت، أخي مات، زوجي مات، الآن بقيت لي ابنتي وأنا أقول لها «دخيلك، ما بدي حبك كتير». جميع هؤلاء تركوا بداخلي جراحا تصير كتبا.
لكن وجودهم كان محطات صنعتك وقدمت لنا فينوس خوري الشاعرة والروائية الكبيرة ؟
- ليس لدي قصة اخترعتها، هناك دائما ما يضرب قلبي، من حياتي أو من حياة غيري، فقصة سبع حجرات للمرأة الزانية، جاءت بعد أن أحرقت قلبي المرأة التي كانت ترجم. بعد نشري للرواية، بدأت تصلني رسائل إلكترونية كثيرة من منظمات حقوقية فرنسية ومن وزيرة النساء في فرنسا فضيلة عمارة تخبرني عن أي حوادث مماثلة في العالم، وأنا أصرح بأسماء هؤلاء النسوة في مختلف وسائل الإعلام، وفي بعض المرات نتج من ذلك أن يتدخل بعض الأشخاص المهمين ويتخفف الحكم على الفتاة. أنا منذ عامين أجول العالم أتحدث عن هؤلاء النسوة.
أنسي الحاج، والترجمة والنهار، الحرب الأهلية، محطة أخرى في حياتك، حدثينا عنها أكثر، وعن عائدها على تجربتك الأدبية؟
- خلال الحرب الأهلية كنت في باريس وكنت خجلة من نفسي كثيرا لأنني في باريس أختبئ وراء صفحاتي البيضاء لأكتب عن الحرب الأهلية. كتبت عن هذه الحرب لكنني كنت أشعر بالخزي والعار ففيما كان اللبنانيون يواجهون الموت والقصف كنت أنا على بعد 4000 كم. لكنني على رغم ذلك جعلت كل الموتى أحياء في صفحات وكان ذلك انتقامي.
لكن لماذا شعرت بالذنب وأنت قدمت الكثير من الكتابات الجميلة، أنت شاركت اللبنانيين على الورق؟
- شعرت أنني يجب أن أشاركهم في مصائبهم، لم أكن قادرة سوى على الكتابة. كتبت 3 كتب الواحد تلو الآخر، «ضجيج من أجل قمر ميت»، «عشيقة الوجيه»، «لا ظلال للأموات». كنت أشعر بالذنب، اللبنانيون قالوا لي إنك مذنبة وأنه يجب أن تكوني معنا، لكنني كنت مع أطفالي الأربعة في باريس، ومع زوجي الذي التقينا إبان مشاركته في مؤتمر ما في لبنان. أحببنا بعضنا وبعد 6 شهور عاد إلى لبنان، انفصلت عن زوجي، وتزوجته. بدا لي كما لو أنه جاء فقط لينقذنا من الحرب ليأخذني إلى فرنسا مع أطفالي. فقدته بعد ذلك بتسعة أعوام لكنه لا يزال معي الآن وبعد 25 عاما.
يقال إن هنالك دائما موتى يعودون للحياة على صفحات فينوس، هل هذا صحيح؟
- نعم، والدتي حية على صفحاتي، وهي حية معي، إنها تعود إلي في كل ليلة وبعد أن تنتهي من عملها المنزلي الشاق. أراها وهي تنظر إلى شجر القراص المحيط بمنزلنا وتقول «غدا سوف أتخلص من هذه الأشجار» وأرى الغد يأتي وينقضي ولا يتسع وقت والدتي لإزالة القراص. في كل ليلة تأتي والدتي إلى الحياة من قريتها. وأنا كل شئ في حياتي أقدمه على الورق، حتى السلام بين الفلسطينيين واللبنانيين إبان الحرب الأهلية في لبنان، صنعته على الورق.
لنعد إلى محطة أنسي الحاج ؟
أنسى الحاج وأدونيس محطتان أحبهما كثيرا. هذان الشاعران غيرا الشعر العربي، أنسي كان أول من أدخلنا على القصيدة النثرية. ترجمت لهما الكثير من قصائدها، منذ ثلاثة أيام فقط انتهيت من ترجمة آخر كتاب لأدونيس.
هل أخذك أنسي للترجمة أم إنك كنت مترجمة قبل أن تعملي معه مترجمة بالنهار أثناء الحرب الأهلية في لبنان؟
- نعم عملت مع أنسي في النهار، حين ذهبت إلى باريس افتقدت اللغة العربية وكأنها شخص أحبه وتركته. ملحق النهار انتقل مع أنسي إلى باريس خلال الحرب الأهلية. أنسي عرض علي العمل معهم، وكنت أقوم بعمل تقرير أسبوعي عن شاعر فرنسي وأرفقه بترجمة جزء من أشعاره. انتهت الحرب ورجع أنسي إلى لبنان، ومنذ ذلك الحين لم أكتب أو أقرأ أي شئ بالعربي. الآن أقوم بجهد كبير لأتحدث معك العربية.
في روايتك «بيت أمام شجر القراص» . لماذا تحدثتي عن القراص، هل القراص هو بشّري أم إن بشّري هي القراص؟، هل استدعاك القراص أم استدعيته أنت؟
- بشرّي لم يكن فيها قرّاص، القرّاص كان ببيروت، في حينا الذي تحول الآن إلى بنايات عالية، لكنه في صغري كان حيا محاطا بكثير من أشجار الصبار والقراص وما إلى ذلك.
بشّري هي الضيعة التي جاءت منها والدتي وكنا نقضي فيها عطلة الصيف. لم أكن أحب بيروت، أنا أكره هذه المدينة، ومشاعري وأفكاري وقلبي كلها تعود لبشرّي وليس لبيروت.
لكن بشّري تغيرت كثيرا الآن، زرتها في العام الماضي مع فريق من قناة تلفزيونية كانوا يودون تصوير فيلم عني. سألوا عن طريقتي في نقل العربية إلى الفرنسية ومزج اللغتين، وعن أسلوبي في كتابة الرواية والشعر، ثم استفسروا عما تكون بشّري التي أتحدث عنها كثيرا في أشعاري. قلت لهم إنها قرية والدتي وقرية جبران خليل جبران، فعرضوا عليّ تصوير جزء من الحلقة في بشرّي، لكننا حين ذهبنا لأريهم كل ما تحدثت عنه في كتبي لم أجد شيئا. المقبرة التي دفنت فيها والدتي تغير مكانها، والشلال لم يعد هناك أما قبر خليل جبران لم يعد محاطا بفاصل زجاجي بل أصبح مغطى بالطوب، لم نعد نرى القبر. مصنع التوابيت الذي يملكه عمي تحول إلى عشة للدجاج، حتى العنزات اختفت كان عددها كبيرا يفوق عدد الناس لكن الآن لم يبقى شيء.
لم تحبي بشري الجديدة؟
- كلا لم أحبها، في البداية أصبت بقهر شديد حين رأيت بشري الجديدة لكني بعدها بدأت أعود بذاكرتي إلى بشري القديمة
كتبت عن بيروت «كيف يكتب الإنسان في مدينة تشبه غرفة واحدة كبيرة بلا جدران يعيش فيها مليون شخص معا يراقبون أنفسهم بلا هوادة» لا تحبين بيروت، أليس كذلك؟
- كلا لم أحب بيروت، لأنها كانت مزدوجة مع أبي، أبي كان قاسيا، أكثر من قاسٍ، خنقتني بيروت، وفي الصيف كنا نذهب إلى بشري ولم يكن يأتي معنا، ربما لهذا أحب بشري.
لكن بيروت سكنتك فيما أنت تسكنين باريس هل كان ذلك خيارك أم أمر لا مفر منه؟
- لم أتحدث عن بيروت إلا حين أصبحت على بعد 4000 كم منها، لم أحبها حتى الآن لا أزورها إلا بناء على دعوة. من سكنتني هي بشرّي، بشري القديمة، التي كنا نعيش فيها حرية. أذكر أننا وبمجرد أن نصل من بيروت كنا ننزع أحذيتنا ونجري إلى النبع نشرب منه ثم نتسلق الأشجار ونقتلع ثمارها، نركض مع العنزات ويركضوا معنا. خالتي كانت معلمة مدرسة وكانت تعلم كل الصفوف مع بعضهم، الكبار والصغار. كانت تطلب مني في بعض الأحيان أن أهتم بالصغار وكنت أصبح معلمة وأنا بعد في الثانية عشرة من عمري، كان هناك حرية.
لكن حين نعود إلى بيروت كنا نشعر بالضغط علينا كان الأب يطفئ الأنوار عند الثامنة مساء ولم نكن نستطيع القراءة. كان يمنع وجود كتب، غير الكتب المدرسية، لا أذكر أني وجدت في بيتنا في بيروت رواية أو كتاب. كان هناك ضغط كبير علينا لذا سافر أخي لكي يتحرر، في باريس أعطوه أملا بأنهم سينشرون أشعاره ولكنهم لم يفعلوا، جعلوه يدمن المخدرات ليترك أشعاره هناك ثم يعود وهو لا يعرف نفسه، وليظل في المستشفى 22 عاما. كان ظريفا للغاية لكن بعد دخوله المستشفى بأربعة أعوام أصبح كهلا.
كل كتبي، العشرين رواية وعشرين مجموعة شعرية، تدور أحوالها في العالم العربي، لا تدور أحداث أي منها في فرنسا لأنه لا شيئ لي في فرنسا سوى مكتبي الذي أعمل عليه. كل قصصي تدور أحداثها في العالم العربي الذي لم أتركه بل ذهب معي إلى باريس ولا يزال يعيش معي. بمجرد أن أشرع في الكتابة تقفز عيناي فوق البحر المتوسط.
هل بشرّي هي من جعلتك دائمة التفاؤل، دائما هناك تفاؤل وسط حزنك وألمك، دائما هناك حياة تنشأ من الموت. حتى لو كان لديك نظرة قاتمة إلى الأمور، هناك دائما ما يلطفها، الطرافة المحببة في أصعب اللحظات، العفوية، حتى في مونولوج الموت الذي ترثي فيه زوجك هناك روح طرافة وهناك فرح طفولي في عباراتك «اليوم الأول بعد موته، تقب المرايا، تنفض بيت العنكبوت، ثم تقيد الفراش الذي يخفق جناحيه»؟
- كان هذا جزءا من مناجاة مع الذات كتبتها وأنا في حالة غريبة، لم أكن أعرف ما أكتب، لكنني وضعت فيها كل شئ في حياتي، كامرأة، كربة منزل، رفعت فيها أشيائي اليومية.
أما حس الطرافة والضحك فأظن أنه جاء في كتاباتي بسبب الكبت الذي عشته صغيرة. كان يمنع علنيا الضحك في البيت ولذلك كان كل شيء يضحكنا، إذا سار والدي في الصالون نضحك، بمجرد أن يدير ظهره نبدأ في الضحك. ربما لذلك كان لدي حس ظرافة بكتاباتي كما يقال. أما العواطف التي تملئ كتاباتي فذلك لأنني لا أكتب إلا ما يعيش بداخلي كما حدث مع «سبع حجرات للمرأة الزانية» إذ لم أتمكن من التخلص من الموضوع وأصبت بقهر شديد كثيرا أصبت بالتعاسة لحال النساء اللواتي يصبحن كالحية التي كنا نضربها بالحجارة صغارا. هذه الفتاة اغتصبها رجل فحملت منه، فرجمت حتى غطت الحجارة بطنها. كانوا يتساءلون فيما كانوا يرجمونها ما إذا كانوا يجب أن يقتلوا الجنين أم ينتظرون حتى تخرج الدودة من قلبه. كانوا ينتظرون حتى تمطر الأرض لتصبح الأرض أقل طراوة فيتمكنوا من رجمها بالحجارة.
خرجت من بشري، وانتقلت إلى باريس، أو لنقل من بيروت إلى باريس، بيروت تعني الموت وباريس هي الحياة كيف تمكنت من التوفيق بين الحياة في ثقافتين متناقضتين بهذا الشكل الصارخ؟
- باريس كانت حياة طالما كان زوجي موجودا، لكن بعد وفاته أصبحت أكرهها. أصبت باكتئاب شديد شعرت كأني تائهة في هذه المدينة التي لا أعرف فيها سوى شعراء وكتاب، ومع ابنتي التي لم يكن عمرها يتجاوز 6 أعوام والتي كانت تلح علي طالبة والدها. الاكتئاب جعلني أفقد قدرتي على التحدث بالفرنسية. أذكر أني ذهبت إلى المخبز وطلبت منه أن يلف لي الخبز بالعربية ثم ذهبت إلى محطة البترول وقلت له «عبي لي بنزين». كرهت اللغة الفرنسية ورفضتها حتى وجدت نفسي عاجزة عن الكتابة بها، أصبحت كتاباتي في تلك الفترة غير مقروءة. بعدها دخلت مرحلة رفض لكل شئ، للغة، للبلد الذي عشت فيها وحيدة مع ابنتي خصوصا حين عاد أبنائي الثلاثة من زوجي الأول إلى والدهم.
نعم عشت في مجتمع عظيم به أكبر الشعراء وأكبر الكتاب الذين يترددون على منزلي. لم أرد ذلك، القدر هو من جعلني أصبح ما أنا عليه، أخذ ذلك الرجل إلى بيروت وجعلني أنفصل عن زوجي. القدر هو ما جعله يموت في سن 52، كان طبيبا عظيما ومهما للغاية. القدر هو ما دفعني إلى النجاح وأنا آسفة لقول ذلك لكن أعتقد أني نجحت خصوصا مع طباعة 70 ألف نسخة من كتابي الأخير، ومع الخبر الذي تلقيته منذ يومين فقط عن حصولي على جائزة الأكاديمية الفرنسية التي سوف أتسلمها في يونيو/ حزيران المقبل، ومع ترجمة كتبي ورواجها في أميركا.
أنت كاتبة فرانكفونية وأحد وجوه الأدب الفرانكفوني، تسكبين كل مشاعرك وذكرياتك اللبنانية الخالصة بحبر فرنسي، لبنان تعيش بداخلك، قلت إن كل شئ يأتيني من لبنان يصير كتابة تحت قلمي، ظللت مخلصة لتجربتهم الأصيلة، لهويتك البشرية، ولثقافتك اللبنانية حتى في الوقت الذي لم تكن فيه التجربة الفرانكفونية هي التجربة التي يعتد بها على مستوى الأدب الفرنسي، كيف يمكن للكاتب أن يفعل ذلك وخصوصا إذا كان قد قضى عمرا طويلا في المهجر، تظل تجاربه الأصلية حية بداخله، كيف يظل كل ما شئ نابضا بالحياة في داخلك؟
- نعم يقولون إنني الكاتبة الفرانكفونية الأولى ولهذا أسست جائزة القارات الخمس في الأدب الفرانكفوني واخترت أشهر الأسماء في الأدب الفرانكفوني، اخترت 5 أهم كتاب وقمت معهم بتقديم الجائزة في كيوبيك مونتريال لمن يتميزون في الإلقاء.
أنا أكتب شيئا غريبا عن اللغة الفرنسية، لا يشبه ما يقدمه الكتّاب الفرنسيون الذين لم يتركوا أثرا علي. أنا عربية أكتب بالفرنسية، والفرنسية لم تعطيني سوى حبر وقلم وطاولة، ولو كنت بقيت في لبنان لقدمت كتبي بالعربية بكل تأكيد، فأنا كنت أكتب بالصحافة وكنت أعيش في مجتمع عربي. أما في فرنسا وخصوصا في سنوات الحرب فقد انقطعت عن لبنان، لم أكن أقرأ صحفا عربية لذا كتبت بالفرنسية وربما جاء هذا لصالحي لأن كتبي ترجمت إلى لغات كثيرة.
حتى الآن ماأزال أحمل حماسا للشعراء العرب ولا يمر أسبوع إلا وأترجم إلى الفرنسية قصيدة لشاعر عربي، لتنشر في المجلات الفرنسية. منذ خمسة أعوام أسست مهرجان الشعر العربي في باريس. عملت المهرجان لكي يعرف الشعر العربي بباريس، شارك فيه 12 شاعر مهمين من جميع البلدان العربية جاءوا وقرأوا أشعارهم مثل قاسم حداد أدونيس وبسام حجار وغيرهم. قمت بترجمة أشعار هؤلاء خلال المهرجان وكذلك بعدها قمت بترجمة قصيدة إلى قصيدتين لكل شاعر.
لكن كيف ظللت مخلصة لتجربتك العربية بعد كل هذه السنوات في الغربة؟
- الأمر لا يتعلق بالإخلاص فقط، لكن لأن الكتابة الجميلة تأتي من عندنا الكتب الفرنسية والرواية الفرنسية لم يبقَ بها شئ، اللغة الفرنسية ضعفت كانت لغة ثرية غنية. حتى حياتهم لا ثراء فيها ولا مشاعر. حين أمرر الجمل العربية المليئة بالعواطف إلى الفرنسية لا يمكنني ذلك دون أن أضعف العواطف فيها. الفرنسيون لا يحبون العواطف ولا المجاز ولا النعوت، هذه أمور مرفوعة من حياتهم ومن كتاباتهم.
هل تري أن للفرنكفونيين تأثير كبير في عملية التقارب الثقافي بين فرنسا والثقافات التي ينقلوها عبر كتاباتهم؟
- الفرانكفونيين مثل الكيميائيين الذين يجمعون لغتين في لغة واحدة لذلك كتابات الفرانكفونيين فيها روح أكثر وفيها حياة
الغربة الطوعية، أضافت إليك، أعطت كتابتك بعدا آخر، أم تجدينها أخذت منك أكثر مما أعطتك،. الغربة أعطتك جرأة لكتابة ما لم تتمكني من كتاباته في لبنان.
- حين أكون في باريس أكون منفية من لبنان، وحين أكون في لبنان أكون منفية من باريس، مدينتي هي الكتابة وصفحاتي يجب أن أملأها. بالطبع أعطتني الغربة بعدا آخر، أنا بين بلدين متناقضين في رأسي وكتابتين متناقضتين. حين أحمل القلم يحدث لدي صراع بين ثقافتين. أتذكر حين كان زوجي يراني وأنا أحاول الكتابة في مثل هذه الحالات وأنقر الطاولة بقلمي يقول لي توقفي عن جعل ثقافتيك تصطدمان ببعضهما اقتلي واحدة منهما. أنا أرفض ذلك فأنا أريد أن أدخلهما على بعضهما. اللغة الفرنسية هي الزوج الذي تزوجته وأعيش معه لكن العربية هي الحبيب الذي يأتيني ويعطيني كلمات بسيطة. العربية أجمل من الفرنسية وأبلغ، كل كلماتنا العربية أكثر تعبيرا عن مرادفاتها الفرنسية. في بعض الأحيان أضطر لأن أعجن اللغتين وأمزجهما.
كيف هو وجود الشرقية في رواياتك، تحدثت عن رجم الزانية في روايتك 18 (سبعة حجرات للمرأة الزانية) من هي المرأة الفرنسية التي جاءت لتنقذ نور بطلة روايتك من موت محتم ... هل هي أنت، وما الذي يمكن أن تقدمه فينوس خوري، وسواها من الكاتبات الفرانكفونيات للمرأة الشرقية، هل المرأة الشرقية أصلا بحاجة لمن ينقذها، هل هي أزمة يعيشها الشرق، أم أزمة تعيشها المرأة في كل مكان؟
- النساء الشرقيات يعتقدن أن الرجل قام بوضع القوانين لحمايتهن، والمرأة التي سترجم في قصتي ترفض أن تنقذها المرأة الفرنسية فقط لأنها استمتعت أثناء عملية اغتصابها
مساء أمس شاهدت على قناتكن التلفزيونية إحدى وزيراتكن تقول أصبحت وزيرة وأعطوني وزارة ولكن لم يعطوني كفاءات لأتمكن من أن أفعل ما أريد، هذه المرأة تقول كأني مانيكان في فاترينا.
أنا اخترعت عملية الإنقاذ هذه ولكني في واقع الأمر لم أفعل شيئ، صرخت وبكيت وأخرجت رأسي من النافذة السيارة حين كنا شاهدنا عملية الرجم في الأستاد الرياضي، كنت أصرخ بهم أيها القتلة، فطلبوا مني أن أغلق النافذة وإلا رجمت. لم أفعل شيئا كتبت كل شئ بدل أن تتعبني الأشياء أكتبها على الورق، لكن أتمنى لو أني تمكنت من أن أنقذ هذه الفتاة.
ما تمر به المرأة الشرقية هو أزمة ثقافة لأنهم لا يسمحوا لها بأن تتعلم الدروس التي تريدها أو تتزوج الرجل الذي تريد وحين تتزوج لا تعمل بل تظل قائمة على شئون بيتها، وفي اليوم الذي يعطوها كل حقوقها تصبح بينها وبين النساء الأوربيات فجوة ليس هناك مساواة بينها وبينهن.
العدد 2386 - الأربعاء 18 مارس 2009م الموافق 21 ربيع الاول 1430هـ