ينتمي شاعرنا عبدالمحسن بن محمد بن يعقوب الصحاف إلى أسرة الصحاف التي يرتفع نسبها إلى قبيلة «تميم» العربية عريقة الأصول. وكانت تسكن «الأحساء». فلما ازدهرت «الزبارة» على يد مؤسسها الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي هاجر إليها عدد كبير من القبائل ومنهم أسرة الصحاف، وفي العقد الأخير من القرن الثامن عشر هاجرت مع عدد كبير من القبائل إلى البحرين بعد تولي آل خليفة مقاليد الحكم فيها.
أقامت أسرة الصحاف في مدينة «المحرق» عاصمة البحرين آنذاك، وتسنم عدد من ابنائها مواقع علمية وثقافية، فكان منهم قضاة وعلماء ومفتون.
ولد الشاعر في العام 1291هـ/ 1874م في مدينة «المحرق»، وبها نشأ، وتلقى تعليمه الأول في كتاتيبها تحت رعاية والده محمد بن يعقوب الصحاف، وكان هذا الوالد نفسه من طلبة العلم في مدرسة محمد بن حسن الخاطر، ثم غادر إلى مكة المكرمة للتزود بزاد معرفي أوسع. وصحب معه أسرته، وكان ابنه عبدالمحسن يافعاً آنذاك، وهناك قضى الشاعر غالبية حياته. وعانى في الكثير من الفترات من ضنك العيش، وعمل مطوّفاً في البيت الحرام، وتمكن من التكيف مع ظروف الاسترزاق وعمل بحرف متعددة لدفع غائلة الجوع عن أسرته خصوصاً بعد وفاة والده.
تعاطى الشعر، وتمكن من فرض وجوده في الساحة الأدبية الحجازية التي كانت تعج بالشعراء، ووثق صلاته بملك الحجاز الملك حسين بن علي (ت 1931) حتى سماه بعضهم شاعر البلاط الهاشمي. ونشر الكثير من شعره في الصحف الحجازية، وحضر الكثير من المحافل الأدبية والسياسية وألقى فيها الشعر. وتوفي بمكة المكرمة العام 1351هـ/ 1932م.
شعره
مازالت أشعاره مفرقة موزعة في بطون الكتب والمخطوطات القابعة في الكثير من المكتبات، وهي بحاجة إلى من يميط عنها اللثام. وأورد المرحوم الأستاذ مبارك الخاطر نماذج من ذلك الشعر في كتابه «المغمورون الثلاثة»، وكان زادنا الذي اعتمدناه في هذه الدراسة.
موضوعاته الشعرية
نظرة في ثنايا ما وصل من شعر الصحاف تظهر أن موضوعاته تدور في فلك الشعر العربي القديم وفي إطار وظيفته التقليدية، وجلها في المديح والحنين والحكمة والتوجيه الأخلاقي، وبعض أشعار المديح ينحو منحى تاريخياً.
البحرين في شعره
يشدّ الانتباه في خطابه الشعري حضور الوطن، وبروز البحرين ماثلة في ذهنه، حية في خاطره نابضة بالحياة على رغم غبطته بإقامته في مهجره في «مكة المكرمة»، وتمثل ذلك في شعر الحنين والشوق، فكان يتغنى بحبها على امتداد فترة نزوحه، ويصف مشاهدها، ويعرض لواعج الغربة، وآلام الفراق في تعبيرات تزخر بالعواطف الجياشة، وتفيض باللوعة.
وقد استهل قصيدته التي بعنوان «سلام على البحرين» بتحيتها وإهدائها أعطر سلام عابق بالحب، وأمل بتجدد تلك التحية بانبثاق الفجر في بزوغه اليومي على ربوعها، وخص بالذكر مدينة «المحرق» وجارتها «الدير»، وعلل حبه لها وتعلقه بها بأنها مرابع طفولته، وملاعب صباه، وموطن أهله وأحبته أصحاب الكرم والجود ومقر حاكمها الشيخ عيسى بن علي، كما شمل بتحيته عناصرها الطبيعية من ثمار وفواكه تلك التي شكلت مواطن لذاته بخيراتها العميمة ولذاتها الطيبة:
سلام على «البحرين ما ذَرَّ شارقٌ
من النورِ من فجرِ «المحرّق» و«الديرِ»
مرابعُ قومٍ يغمرُ الجودُ عندهم
نزيلَهمو والمستجيرَ من الفقرِ
مرابعُ أترابي وصحبي وعزوتي
وسُدّة شيخِ القوم «عيسى» أبي الفخرِ
سلامٌ على أعذاقِ نخلٍ تحدَّرتْ
بأحمالها من خالصِ البكْرِ والغرِّ
كذا التينُ والرمانُ واللوزُ أحمرٌ
وأبيضُ والتوتُ المقرمزُ كالجمرِ (الطويل)
وقد أكسب التعديد لمنتجات البحرين الزراعية وما تنتجه أرضها من فواكه وثمار الأبيات قيمة وثائقية، وخصوصاً ان الكثير من معالم الحياة الطبيعية في البحرين قد تغيّرت في الوقت الراهن.
مجمع البحرين
ولتجذر عشقها في فؤاده وافتتانه بها تغنى بها، وبعث لها برسائل من الهيام والحب شكّلت نشيداً عاطفياً يزخر بالإحساس والوصف لبيئتها الطبيعية وذلك من خلال قصيدة أسماها «بلادي مجمع البحرين»، وأشار إلى انها مجموعة من الجزر تشكل أرخبيلاً وسماها «مجمع البحرين» تيمناً بهذا الاسم الوارد في القرآن الكريم، وكان ترابها أول تراب مسّ جسده، ونعم فيها بطفولة سعيدة وبصنوف من البهجة والهناء، كما انها مقرّ أهله وأحبته:
بلادي مجمعُ البحرينِ تدعى
وأنعمْ بالجزائرِ أرخبيلا
ومسقطُ هامتي وربوعُ قومي
وأترابي وملعبيَ الجميلا
ومحتضنُ الأعارب والنشامَى
ولي فيها الأقاربُ والقبيلا (الوافر)
ويشكل الحنين والشوق هاجساً يؤرّق الشاعر ويمضّه ويسبب له الأسى، حتى خيّل إليه أنه عليل الجسم، وقد أسلمه الحنين والتوق إلى الماضي وإلى حديث الذكريات يتفيأ ظلالها علها تخفف من آلامه، إلا أنه سرعان ما يكتشف عدم جدواها، لذلك يلجأ إلى الدعاء يلتمس من الله لم الشمل وتحقق اللقاء، وهو يؤدي ذلك في خير مقام يستجاب فيه الدعاء وهو البيت العتيق حيث يقيم:
وما الذكرى بنافعتي ولكنْ
أفرج كربتي شيئاً قليلا
فراقهمُ يعزُّ عليَّ حتى
كأّني من فراقهمو عليلا
بملتزمٍ ببيت الله أدعو
بجمع الشمل أو لقيا طويلا
وسكب الشاعر عاطفته في حنايا العبارات التي استحالت بفعل اندماجه وموضوع الوطن الى دفقات شعورية. ومع اغتباطه بإقامته في «مكة» واقتناعه بأنها خير البقاع إلا أن الشوق إلى مدينته «المحرق» يشدّه ويؤرقه، فلا يملك ازاء ذلك إلا أن يحلم بربوع الوطن، ويعترف بالعجز عن نسيان أهله ومجالسهم وما تضمه من رفاق وأحبّة:
وإني إلى أهل «المحرق» تائق
وهل لي أن أنسى مجالسها الزهرِ (الطويل)
ومن منطلق الودّ الخالص والوفاء الكبير يطلق خطاباً يوجهه إلى جميع أهل البحرين يضمنه إصراراً على عدم نسيانهم وإبقائهم بشكل حيّ في الذاكرة حتى تبقى البحرين وناسها ماثلين في فكره، نابضين بالحياة في مخيلته يذكره بهم غناء الطير ووفود الحجيج، هذا مع اتخاذ قرار نهائي بالإقامة في «مكة المكرمة» حيث أقدس البقاع وبجوار البيت الحرام وما يوفره من أمن واطمئنان وخير:
سنذكركم يا أهل «بحرين» كلما
شدا الطير في أوكانه وهو لا يدري
سيذكرنا منكم حجيج إذا أتى
لعمرة أو حج يقوم على البر
ويسعدنا إنا مقيمون هاهنا
بأكناف بيت الله ذي الأمن والخير
الدور العلمي للبحرين
وبتأثير حب الوطن كان يعجب بكل ما فيه، وكل ما يتعلق به من مجتمع انساني وفئات اجتماعية وحياة طبيعية. وأشاد بعلماء البحرين، ونوه بقدراتهم العلمية ورأى تفردهم وانهم لا مثيل لهم في علومهم، ومن ثم اعتبرهم موضع فخر لبلادهم تزهو بهم وتتألق، كما مدح أخلاقهم وكثرتهم وانتشارهم في مناطق البلاد:
وحسبك من مشايخنا اتباعاً
فقد لا تلقى بعدهمو مثيلا
بهم زهت البلاد وفي «أوال»
تجدْ في فيهم ظلاً ظليلا
ربوع في «المحرق» تحتويهم
وأخرى في «المنامة» لا تحولا (الوافر)
ويقف متأنياً منوّهاً بدورها العلمي، وبمدارسها التي تقدم العلم سهلاً ميسراً لطلابها على يد علماء لهم باع طويل في تدريس علوم الدين، وثراء معرفي في أصول الشريعة الإسلامية:
وإما جئتها للعلم ترجو
ففي يسر تنال به حصولا
مدارسها قلاع للمعالي
وفي تعليمها حولاً وطولا
مشايخها لهم قدح معلى
بدين الله تعليما أصيلا
وبدافع الحب والاعجاب وصف بساتينها الواسعة وقصورها الممتدة بين «الرفاع» و«الصخير» تأكيداً على عدم نسيانها واعتزازاً بها:
تظللها بساتين عراض
طوال من بواسقها نخيلا
قصور في «الرفاع» مقرنصات
وأخرى في «الصخير» بها نقيلا
القيمة الوثائقية لشعر الصحاف
وعمد إلى تعديد مصايفها تعديداً شبه احصائي فذكر بالاسم عشرة منها، ما أعطى هذا الجزء قيمة وثائقية بسبب تغير ملامح الحياة فيها خصوصاً بعد الاكتشافات النفطية وتطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وما نتج عنه من زحف عمراني هائل حول جل تلك المصايف إلى مجمعات سكنية ومدن آهلة بالسكان:
مصايفهم بـ «سيول» وريا
و«جابور» و«بدعة» أو «بوزويلا»
و«سترة» أو «قضيبية» ومنها
«عراد» و«القرية» و«النخيلا»
وبالأسلوب الوثائقي نفسه يشير إلى عيونها المتدفقة ومياهها النباعة، البرية منها والبحرية. وكانت البحرين وحتى فترة ليست بالبعيدة تتميز بكثرة المياه، وانتشار العيون العذبة، وخصوبة الأراضي، كما عني بذكر بعض العيون المشهورة:
تنوء بمائها سلسا محلى
ويوشك أن يفيض بها سيولا
وقاع البحرين يسقيها بماء
بُعيد الجزر حلواً سلسبيلا
وتقذفه عيون سافحات
«عذاري» و«الرحى» وكذا «القفولا»
وماء المزن تمنحه وفاء
«حنينة» الرفاع ولا فضولا
كما يلتفت إلى لآلئ البحرين ويشيد بشهرتها وجودتها التي لا مثيل لها، وبإعجاب واعتزاز يصف الأصداف التي يتربى فيها اللؤلؤ، فيصف شكلها ولونها، ويشير إلى تجارة اللؤلؤ الرابحة التي امتدت عبر بلاد واسعة، كما يذكر المغاصات التي تعيش فيها الأصداف وتتربى والمعروفة محلياً بـ «الهيرات»:
ولا تنسى لآلئها الدراري
ولا في الكون تلقى لها مثيلا
وما أصدافها إلا صحافاً
لجينيات محشرها ثقيلا
ودولة غوصها وسعت بحاراً
من الهيرات لؤلؤها صقيلا
لقد فتن الصحاف بالبحرين وهام بها، وقد أشعلت الغربة ذلك التعلق، فظل وفيا لها يتقد قلبه بحبها حتى ليم على ذلك الافتتان، ومن ثم وجه خطابه إلى ذلك اللائم المتخيل يبرر فيه ذلك الحب الذي أسماه عشقاً ويعلله:
فيا من دأبه لومي وعذلي
فعشقي في «أوال» له أصولا
وتيمناً بالبحرين وإيثاراً لها أطلق اسم «لامية البحرين» على قصيدته اللامية التي عارض فيها لامية العجم للطغرائي الشاعر العباسي (ت 515هـ / 1121م) مع كونها لا تمت بصلة إلى موضوع البحرين لا من قريب ولا من بعيد فهي ذات موضوع تأملي أخلاقي وإنما هو الحب والتعلق بالوطن