لأحد الزملاء الظرفاء من العاملين في قسم الارشيف في إحدى الصحف المحلية تعليق ظريف عندما طلب منه المخرجون يوماً أن يستخرج صورة للكنيست الإسرائيلي. رد الزميل بسؤال أراد منه التأكد من موضوع الطلب: «هاذلين اللي كله يتهاوشون؟». أي «هؤلاء الذين يتشاجرون دوماً».
لم يعلق في ذهن الزميل من انطباع أو فكرة عن الكنيست الإسرائيلي سوى أن أعضاءه يتشاجرون لكثرة ما شاهد على شاشات التلفزيون، لكن الشجار في البرلمانات ليس حكراً على برلمان «إسرائيل». لقد شاهد العالم مشاجرات واشتباكات بالأيدي في أكثر من برلمان وشاهد العالم كيف أن الزعيم الروسي المتطرف جيرنوفسكي ضرب نائبة في البرلمان الروسي وشد شعرها في مشهد استغرق دقيقتين على شاشات التلفزة. وشاهد العالم أيضاً اشتباكات بالأيدي في برلمان كوريا الجنوبية وبرلمان تايلند حديثاً وحتى البرلمان الياباني وفي برلمانات أخرى. لكن هل الشجار والاشتباكات اللفظية والجسدية هي مشهد وممارسة مألوفة جداً في البرلمانات؟
يتداعى إلى الذهن هذا السؤال عندما يتذكر كل أشكال الشجار التي حفل بها مجلس النواب البحريني في عمره القصير. وكنت أسمع من البعض تعليقات ترى أن هذا أمر عادي جداً في أي برلمان، لكن السؤال لا يتأخر: هل يكون النموذج السيئ من العمل البرلماني مقياساً أو قدوة؟ يقال مثل ذلك التفسير على سبيل التهوين، لكن الأمر لا يقف عند مشاجرات البرلمان ولا سرعة اندفاع النواب للشجار وأعصابهم المنفلتة دوماً.
النواب في أي بلد في العالم هم أبناء الظروف التي يعيشون فيها، وإذا كان الكونغرس الاميركي بمجلسيه (النواب والشيوخ) لم يشهد اشتباكات بالأيدي أو البرلمان البريطاني أو سائر البرلمانات الأوروبية لا تشهد اشتباكات كهذه فهذا أمر جدير بالتوقف عنده.
بعد مجزرة قانا في جنوب لبنان العام 1996، شاهد العالم النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي عبدالوهاب دراوشة يرفع صوته في هجوم شرس على رئيس وزراء «إسرائيل» آنذاك شمعون بيريز وقام حراس الكنيست بإخراجه من القاعة. هل يعطينا هذا ملمحاً لجواب بشأن الشجار في البرلمانات؟
لماذا يتشاجرون في برلمانات العالم الثالث ولا يتشاجرون في برلمان العالم الصناعي؟ عندما تشاهد مشاجرات النواب في مجلسنا، تشعر بأنك شاهدت مثل هذا المشهد من قبل في مكان آخر وفي بلد آخر. لا يتوقف الأمر على المشاجرات تحت قبة البرلمان، بل إن التظاهرات في الشارع تعطيك الإحساس نفسه وخصوصاً تلك التي تخرج على خلفية قضايا قومية. في مظاهرات التأييد للقضية الفلسطينية، ينتابك الإحساس نفسه: مشهد الجموع، اللافتات، الرايات، الأعلام تعطيك الإحساس بأنك شاهدت ذلك في مكان آخر. لا يبقى من سمة الهوية سوى الثياب وقسمات الوجوه.
الجدل السياسي نفسه جزء متمم في هذا التماهي. لا يتعلق الأمر بما إذا كان ذلك حسناً أم العكس، ليس هذا هو المطروح، فأساليب التعبير والاحتجاج الجماهيري باتت اليوم أشبه بثقافة عالمية تقف أمام عالمية التحالفات الدولية وعالمية الاقتصاد والأسواق المفتوحة. عدا أن قيمة الاحتجاج نفسه والجدل السياسي أيضاً سيظل مرهوناً إلى حد كبير بمدى خصوصيته المحلية.
إن الاستعارات التي تكثر في خطابنا السياسي عند الإشارة إلى «الديمقراطيات العريقة» أو «المنجزات الحضارية» أو «الدول المتقدمة» أو «أسس الديمقراطية» تبدو غير ذات معنى أحياناً لأنها تفتقد التأصيل على الأرض هنا كممارسة يومية لا تحتاج إلى أمثلة. وبالأساس هي لم تطرح إلا لأن هناك حاجة إلى التدليل والبرهنة.
إننا في الغالب نسعى إلى المحاكاة لا إلى التأصيل في الخطاب والممارسة، إحدى النتائج الأهم لهذا شعورنا الدائم بأن شيئاً لا يتحرك. كل حدد حدود حركته في خطابه: الحكومة، المعارضة، النواب، الناشطون... المتذمرون، المتفائلون والمتشائمون. السبب بسيط: المحاكاة ليست من نتاج الذكاء العملي بل دليل انتفائه
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 827 - الجمعة 10 ديسمبر 2004م الموافق 27 شوال 1425هـ