هل نحن شعب خجول؟ ربما يكون ذلك صحيحاً، لكن في وقت ما كنت أشعر بأن علينا أن نضيف إلى مدونة حقوق الإنسان تعريفاً جديداً يعتبر «التحديق في الأشخاص» نوعاً من الانتهاك لحقوق الإنسان.
نحن شعب خجول وعلى شيء من المحافظة، لكن إحدى طباعنا المتأصلة هي «التحديق المركز» الذي نطلق عليه بلهجتنا: «الخز».
اذهب الى أي حي وستجد أن مرتادي الدكاكين والواقفين في الزوايا والجالسين على الدكك الاسمنتية يحدقون فيك ما ان تقع اعينهم عليك حتى تختفي عن اعينهم. ستشعر بالعيون تلاحقك، تتفحصك جيداً. هل هي بقية من تقاليد الفرجان أو القرى المغلقة على أهلها الذين يميزون الغريب من أهل الحي؟ ربما انها كذلك. ولأنها كذلك فإن ثقافة الفريج (المغلق) لاتزال تفرض نفسها باشكال عدة في الحياة العامة. فالحديث عن الملابس والثياب والاحتشام والمجمعات التجارية وكل هذا، لا يعبر سوى عن ذلك النوع من النظرة الذي يرى أن مهمة الواحد فينا أن يكون أبا للجميع، وان ما يفعله الآخرون وما يفكرون فيه من صميم اختصاصه. وإذا كان الكبار قديما ينهرون أي طفل في الحي أو طفلة دونما احساس بالتدخل أو التطفل، فإن الحياة العامة في العام 2004 للأسف لا تسير وفق هذا المقياس.
لماذا أتذكر هذا الآن؟ أتذكر هذا الآن وأنا أتابع هذا الاستعراض المجاني لضجيج ما يسمى «قانون الحشمة» وكأن المجتمع افاق على اكتشاف خطير بأن جامعة البحرين التي خرّجت اجيالا من أبنائنا وبناتنا من معلمين وعاملين في مجالات عدة هي «بؤرة الشرور».
الآن لنر الفارق: أيهم الذين يملكون نظرة طبيعية لبعضهم بعضاً، الذين يملكون عيناً متلصصة لا همّ لها سوى التحديق في ملابس الآخرين وفي الفتيات وخصوصاً من الذين يقفون وراء ضجيج «الحشمة» هذا أم أولئك الذين لا يرون في الأمر ما يستدعي كل هذا الضجيج؟
عندما أردت أن أحكم على مدى قبول الطلاب والطالبات لما يجري من ضجيج يتحدث به الآخرون بشأن ملابسهم وأخلاقهم، لم يكن مقياس التجييش والعدد هو المقياس الصائب. كان خروج مسيرتين وحده يكفي لكي يعرف أصحاب هذا الضجيج أن ثمة وجهة نظر يجب الاصغاء لها: وجهة نظر الطلاب أنفسهم. من تحمل المشقة لكي يستمع اليهم؟ لا أحد. هل نسيتم: نحن شعب لا يعرف الاصغاء.
ونحن نوالي استعراضات ضجيج الحشمة، كان علينا أن نقرأ في الصحف أن ثمة طلابا خرجوا يطالبون بتطبيق لوائح الجامعة بشأن الحشمة، وقالت الصحف إن عدد هؤلاء لم يتجاوز العشرات. وقرأنا أيضاً أن مئات آخرين من الطلاب والطالبات خرجوا في مسيرة أخرى ترفض التدخلات في شئونهم وتطالب برفع الوصاية عن أخلاقهم والطريقة التي يدرسون بها في الجامعة وتالياً رفض الطعن في أخلاقهم. فعندما تطالب بالحشمة في مكان ما، فان المعنى الاهم الذي لم تقله هو ان هذا المكان ومن فيه يفتقد للحشمة.
هل كان ذلك كافيا؟ لم يكن كافيا لأننا لم نتعود أن نذهب بعيدا في الأسئلة. لسنا متعودين أن ننثر الأسئلة ولا أن نأخذ العبرة. لسنا متعودين على الاصغاء، نفصل القوانين للطلاب ولكل الناس، لكننا نرفض أن نستمع اليهم. وعندما نتحدث عنهم في الخطب والمنتديات فانهم «رجال الغد» وهم «أمل المستقبل» وهم إلى هذا هدف للاستقطاب لكل الناشطين السياسيين من كل التيارات. على رغم هذا كله: لا أحد يستمع لهم، وعلينا غداً أن نعرف أي نوع من أجيال المستقبل نرعاه نحن دون أن يتربوا على ابداء رأيهم الصريح والواضح، ودون أن نصغي لهم بالأساس.
هل تعرفون لماذا خرج الطلاب في مسيرة ثانية ترفض كل هذا الضجيج والوصاية؟ لم يخرجوا لأن وراءهم تنظيما سياسيا، ولم يخرجوا لأنهم بلا أخلاق، بل خرجوا لأنهم شعروا بأن حياتهم في الجامعة ليس فيها ما هو استثنائي أو غير طبيعي. أي أن حياتهم الطبيعية في الجامعة شاملة علاقاتهم ببعضهم بعضاً طلابا وطالبات ليس فيها ما هو أكثر من الطبيعي. ليس فيها ما يستدعي هذا الضجيج كله، أي بعبارة أخرى: «خرجوا ضد الافتعال».
هؤلاء هم أبناء هذا الجيل الجديد المشبع بالروح العملية والذكاء العملي، على العكس من الأجيال الغارقة في الايديولوجيا التي سبقتهم وتسعى اليوم لضبط حياتهم بأحلام الايديولوجيا التي تنحو لضبط حياتهم بالمسطرة. لا تكترث لمستواهم وقدراتهم بل باشكالهم. لا تكثرث لنوع العلوم التي يتلقونها وما إذا كان التعليم ينمي فيهم حس التحليل والقدرات والمهارات العالية بل لنوع الاقمشة التي يتلفعون بها وألوانها.
عمليا ولسنوات طويلة كان الطلاب والطالبات معا في الجامعة، في الفصول والمختبرات والانشطة وكان الأهالي يرسلون أبناءهم إلى الجامعة جيلا بعد جيل بكل اطمئنان ومن دون وجل. أما الآن وبفعل أحلام الايديولوجيا، فإن الحياة الطبيعية التي كانوا يحيونها في الجامعة باتت مهددة بالافتعال. وبات ايمان الأبناء على المحك لأنهم غير محتشمين بنظر البعض، وايمان اهلهم أيضاً على المحك. وبالنسبة للأهالي فإن المعنى الوحيد الباقي في اذهانهم من هذا الضجيج كله هو ان ايمانهم ايضا بات موضع شك ومطعون فيه لسبب بسيط هو ان مقياس الايمان الرائج شكلي وشكلي محض للأسف.
الاحساس بوطأة التدخل في حياة طبيعية جدا، هو ما حدا بنا إلى مشاهدة الفتيات يتصدرن مسيرة الاحتجاج: مغطيات ومحتشمات في ملابسهن والحجاب فوق رؤوسهن. فهل سنسمع عما قليل انهن قليلات الايمان أم أية تهمة أو تشكيك آخر؟
حقا هذا هو النوع من الموضوعات التي تشعرني دوما بالقرف عندما اضطر للخوض فيها، فأي جدال فيها لابد أن ينتهي بنا إلى الدفاع عن معتقدات الناس وايمانهم والتفتيش في نواياهم. وعلينا أن نخوض الجدال إلى آخره وفي ادق التفاصيل: أين الجدوى في تفكير طالب لا هم له سوى التحديق في زميلاته الفتيات وملابسهن وان يرفع صوته بالاحتجاج على ملابسهن وزينتهن؟
أين الجدوى في هذا كله عندما لا نسمع أحدا يتحدث عن المستوى العلمي للطلاب والطالبات ولا عن ضرورة إنشاء مراكز أبحاث في الجامعة ولا تطوير مستويات التلقي لدى الطلاب ومهاراتهم بل عن ثيابهم وكأن الفضيلة والحشمة في هذا البلد أصبحت معلقة كلها بملابس طلاب الجامعة
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 830 - الإثنين 13 ديسمبر 2004م الموافق 01 ذي القعدة 1425هـ