مازال بعضنا يحلم بالماضي... شيء طبيعي أن من وعى على نظام الامتيازات لا يريد أن يشاطره أحد في الكعكة السياسية أو الاقتصادية، لكني أعتقد أن المعادلة تغيّرت، والمستقبل السياسي للعالم العربي مقبل على توازنات جديدة شئنا أم أبينا. لهذا يجب أن نقبل بالواقع، فلقد بدأت تتآكل نظرية أبناء الست وأبناء الجارية. القضية وما فيها هي نظام مصالح بدأ يتوازن حتى وإن أضفينا عليها شعارات الدفاع عن القومية والعروبة... إلخ. إن التغير في العراق وما شاطره من استبدال النظام، بدأ يفرز واقعاً آخر، لهذا يجب أن يتعايش أهل العراق وكل الخليج والعالم العربي والإسلامي مع هذا التوازن الجديد المتمثل في خروج أطياف جديدة بدأت تلعب في الساحة العراقية، انفرزت من الفسيفساء العراقي.
السيد السيستاني رجل الواقعية في العراق، التقط الخيط وراح يدفع باتجاه خلق التوازن الجديد من دون أن يعير انتباهاً لكل الأقوال والتحليلات التي تريد أن تضعه في خانة التخوين، لعلمه أن القضية ليست قضية «عروبة» و«قومية»، لكن القضية وما فيها أن ركناً كبيراً من الأركان الامتيازية قد سقط... الكثيرون كانوا يعتاشون على كعكة العراق، وكانوا يرون فيه البقرة الحلوب... الآن سقطت البقرة وسجن «العمدة» الذي كان يقمع كل الفلاحين طيلة 30 عاماً. فماذا يريدون من هؤلاء الفلاحين... أن يذرفوا دموعاً على «العمدة» الذي وزع الحليب؟
أرى في التوازن العراقي مستقبلاً واعداً على رغم منغصاته. يطربني موقف السيد السيستاني لشيء بسيط هو أن موقفه بدأ يكشف مضمرات الخطاب المبطن داخل الواقع الإسلامي والسياسي لأنظمة وحركات و... تكشف لك زيف دعاوى الديمقراطية والالتقاء الإنساني، وما نظرية خشية «الهلال» المختلق إلا جزء بسيط مما هو مكبوت، وهي تذكرني بمقولة بوش في حربه على العالم العربي عندما قال: إنها «حرب صليبية». السياسيون قد لا يستطيعون دائماً أن يسيطروا على ميولهم النفسية، أو ما هو موجود من احتقان داخلي، فالإمام علي (ع) يقول: «ما يكتمه الإنسان في قلبه يظهر على فلتات لسانه أو على صفحات وجهه». في السياسة الجميع يفكر في مصالحه... وأزمة العراق أزمة مصالح وليست أزمة قيم يخاف عليها وإن ألبست ثياب العفة والخوف على القيم العربية، وأميركا جاءت من أجل مصلحة أميركية وإسرائيلية، ومقتضى الظروف لابد أن تقبل بديمقراطية ولو صورية، والحق أنها لا تريد ديمقراطية حقيقية في المنطقة، فهي تبحث عن مصالحها. إذاً الجميع يبحث عن مصالح وليس عن إسلام، وأعتقد أن الانتخابات في العراق ستخرج الأميركان ولو بنسبة معينة. وأعتقد أن من الأولى على جميع أطياف المجتمع العراقي المشاركة كما جاءت النصائح من البيوت الإسلامية والليبرالية ذاتها، وألا يكرروا خطأ المقاطعة كما حدث في أكثر من دولة ومكان، فالمقاطعة تقود التيار إلى التهميش... القطار يسير وهم مازال متمسكين بالشعارات الفضفاضة التي لا تؤكل عيشاً، وثقافة الزرقاوي لا تبني مجتمعاً، ولا تؤسس لبنية تحتية حتى لو وصفناها بالبطولية والعنفوانية، لكننا في النهاية سنقف مع أنفسنا لنقرأ الحدث من جديد، سنجد أننا مازلنا نراوح أماكاننا وكل المشروعات مشت وسارت وانطلقت ووزعت الكعكة السياسية، وتم توزيع مقاعد البرلمان العراقي وحصص الوزارات وأنت جالس تصرخ في الفضائيات: الويل للأعداء والخونة «سأقاطع»... السياسة تعني فن الممكن... السياسة تعني الواقعية... السياسة أرقام وحقائق على الأرض وتغيير الواقع بأدوات الواقع.
في السياسة تقاس الإيجابيات بالسلبيات. فلنضرب مثلاً: زعيم القاعدة بن لادن، ضرب واشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول وانتشى الآلاف لهذا الموقف، لكن في المقابل وبالمنطق الرقمي خسر أفغانستان، وقاد ذلك إلى سقوط العراق بمعنى اثنين مقابل واحد، وهكذا هي العملية... كذلك بالنسبة إلى السيد مقتدى الصدر، فهو قاد خطاباً ثورياً حماسياً، وفي نهاية المطاف بعد أن خرج من وهم القوة، وعرف أن القضية تحتاج إلى تكافؤ في السلاح والقوة، وبعد سقوط عدد كبير من الجرحى، سلّم السلاح وكان بإمكانه تفادي كل ذلك لو أنه انتهج نهج السيد السيستاني.
ختاماً، إن مجيء السيد عبدالعزيز الحكيم له من الدلالة السياسية الشيء الكبير. ونقول: أهلاً بالسيد الحكيم في البحرين. والبحرين تستقبلك حكومة وشعباً، وكل أمنياتنا أن تبقى العراق بلد الوحدة الإسلامية بلد الجميع. زيارة الحكيم درس عملي للواقعية العراقية
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 828 - السبت 11 ديسمبر 2004م الموافق 28 شوال 1425هـ