شن العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله، حملة على «العصبية الخطيرة التي تعيشها مجتمعاتنا» وعلى الاندفاع الغريزي للدفاع عن الأطر الحزبية والطائفية والعشائرية بعيداً عن الموضوعية.
ودعا سماحته إلى العمل للإصلاح الداخلي في «أحزابنا وطوائفنا وعشائرنا في مواجهة العصبيات التي بدأت تأكل الأخضر واليابس».
وانتقد انتقال الأمراض الطائفية إلى الأحزاب التي تحولت إلى طوائف جديدة بمصطلحات عصرية، مؤكداً أن المشكلة تكمن في كياناتنا السياسية والحزبية والفكرية والطائفية التي لم تتحول إلى مؤسسات.
وسئل في ندوته الأسبوعية عن الموقف الإسلامي من العصبية وتأثيرها السياسي والاجتماعي في الواقع المعاصر؛ فأجاب: لعلّ المشكلة التي تواجه الإنسان في انتماءاته الدينية والعرقية والعشائرية والحزبية والسياسية، هي مشكلة الاستغراق في انفعاله الذاتي في عنوان الانتماء، وفي علاقته بالمجتمع الذي يتفق معه في ذلك، الأمر الذي يؤدي إلى التعصب الذي يجعله ينغلق على نفسه، ولا ينفتح على الآخرين الذين لا يملكون هذا الانتماء بالمستوى الذي تتقدم فيه الذات على المبادئ، فلا يلاحظ عنوان القيمة في علاقته، بل يلاحظ عنوان الإطار الذي يمثله الانتماء، فإذا دخلوا في معركة كان معهم، حتى لو كانوا ظالمين ضد الآخرين، وحتى لو كانوا مظلومين، على طريقة: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، بالتفسير الجاهلي للمسألة. وهكذا يلتزم أفكارهم حتى لو كانت في مواقع الخطأ، لأنه لا يملك إلا فكرهم، ولا استعداد له لمناقشته في تفكيره الخاص أو من خلال تفكير الآخرين.
وتابع: ويمتد ذلك إلى الموقف السياسي أو الاجتماعي الذي لا تلتزمه العصبية الانتمائية، ليكون المنتمي مجرد صدى أو ظل للآخرين. وخلاصة الفكرة، هي: أن الانتماء في استغراق الإنسان فيما ينتمي إليه، يؤدي إلى أن يفقد هذا الإنسان استقلاله الفكري، فلا ينفتح على الفكر الآخر، ولا يمنح نفسه الحرية في مناقشته، فيظلّ سجين الانتماء. إننا لا نمانع التزام الإنسان بفكر معين يقتنع به، أو بانتماء يؤطِّر حركته في داخله، لأن ذلك حق طبيعي له، بما يتمثل في مضمون إنسانيته في قبولها للفكر واقتناعها به، ولكن مسألة التعصب هي مسألة الانفعال الغريزي بالفكر أو الانتماء، بحيث ينكر على الآخر فكره وانتماءه، أو يمتنع عن الحوار معه في نطاق الاختلاف معه.
وقال: إن هناك فرقاً بين الالتزام الذي هو حال إنسانية في دائرة الإيمان، والاقتناع بالطريقة التي يعيش فيها النظرة الإيجابية لحق الآخر في انتماء مختلف، بحيث يتمثل في الاعتراف به، وبين التعصب الذي لا يملك فيه الإنسان الاعتراف بالآخر، وهكذا قد يتحوّل التعصب إلى حال من عبادة الشخصية التي تنتقل من عبادة الانتماء إلى عبادة القيادة الشخص)، وقد حدّد الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) أن العصبية التي يأثم عليها صاحبها، «أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين»، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم.
وأضاف: أن ثمة عصبية خطيرة تعيشها مجتمعاتنا، تتمثل في هذا الاندفاع الغريزي للدفاع عن الشخصيات أو عن الأطر الحزبية والطائفية والعشائرية، بعيداً عن الإطار الموضوعي في الحكم على هذا الشخص أو ذاك، أو هذا الكيان الحزبي أو العشائري، بحيث يكون التأييد المسبق الذي يلغي كل الأخطاء، ولا يعترف بالهفوات والزلات، هو الحاكم للعلاقة بين الفرد والمسئول، أو بين الفرد وبين هذا الإطار السياسي أو ذاك. لقد كانت الفكرة التي يطرحها البعض في الواقع العربي والإسلامي، وفي العالم الثالث عموماً، أن الأحزاب تمثل حلاً لمسألة الانتماء، على أساس التنوع الذي يقود إلى الحوار وإلى شيء من الإبداع على مستوى الممارسة السياسية والفكرية، ولكن الأحزاب في كل من تجلياتها ونماذجها تحولت، ومن خلال العصبية الحزبية، إلى كيانات مغلقة، لا يتنفس فيها المنتمي هواء الحرية الفكرية والسياسية والنقدية، فبرز الاختناق الحزبي كأزمة ضاغطة في واقعنا، عندما انتصر الرأي لحماية الشخص أو القيادة، وإحاطتها على حساب المؤسسة وعلى حساب المنتمين.
وأردف: ولقد كانت الأحاديث التي يطلقها الساسة في واقعنا، تتمحور حول الخط السياسي لهذا الحزب أو ذاك، والذي لابد أن يكون نتاجاً طبيعياً للقاء القيادة والقاعدة، وللسياسة التي يرسمها هذا اللقاء، ولكننا رأينا كيف أن القيادة تصادر القاعدة، وكيف تُقمَع المعارضة الحزبية حتى لو كانت اعتراضاتها داخلية، في الوقت الذي نجد في كثير من الممارسات الغربية على المستوى الحزبي أن هذا البرلماني الحزبي أو ذاك، قد يصوّت ضد حزبه، لأنه لم يقتنع بوجهة نظر حزبه، ولأنه يعتبر نفسه مسئولاً أمام الناس لا أمام الحزب أو قيادته.
وخلص إلى القول: ونحن لا نريد أن نتحدث عن الغرب دائماً كنموذج في هذا السياق، لأننا نلمح شخصانية غربية على طريقة العالم الثالث في الممارسة السياسية، وخصوصاً في الإدارة الأميركية، التي يعمل رئيسها على تعيين المقربين منه، أو الذين كانوا مستشارين له في خططه السياسية، أو حتى من شغل منصب المحامي عنده مسئولين ووزراء جدد، على أساس العلاقة الشخصية التي لا تأخذ الكفاءات العلمية في الاعتبار، وهو الأمر الذي قد يشير إلى سياسة أكثر تشدداً أو أكثر عدوانية حيال قضايانا، كما يشير في الوقت عينه إلى البدائية السياسية التي تفرض نفسها على أكثر من موقع في الغرب الذي يقدم فيه البعض أنفسهم رسلاً للتغيير والإصلاح في العالم!
وختم: ولكن المسألة في واقعنا، أن علينا أن نعمل للإصلاح الداخلي في أحزابنا وطوائفنا وعشائرنا، انطلاقاً من قيمنا، وفي مواجهة العصبية التي بدأت تأكل الأخضر واليابس سياسياً وحزبياً، وحتى طوائفياً ودينياً، وقد تحولت الأحزاب إلى مشكلةٍ، عندما انتقلت أمراض الطوائف إليها، إذ أضفنا طوائف جديدة إلى عديد الطوائف عندنا، ولكننا أطلقنا عليها مصطلحات عصرية، ومفردات توحي بالتطور والعصرنة والحضارة. ولعل المشكلة في كياناتنا السياسية والحزبية والفكرية والطائفية، أنها لم تتحول إلى مؤسسات، وأن الروح النقدية انتفت فيها، أو غُيِّبت لمصلحة الشخص أو القيادة. والسؤال هو عن حركة الشعب الذي لابد أن يتحرك المثقفون والواعون فيه للتغيير، من خلال الذهنية، ومن خلال التربية، حتى نكف عن إنتاج أكثر من دكتاتور وأكثر من امبراطور، تحت لافتة الطائفة والحزب والكيانات السياسية والعشائرية المتعددة.
استقبال
من جهة ثانية، استقبل سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، في دارته في حارة حريك، سفير تشيكيا في لبنان مارسيل سكوليل، وبحث مجمل تطورات لبنان والمنطقة.
وكان سماحته استقبل الوزير السابق أسعد دياب، وعرض معه لشئون محلية.
كما استقبل سماحته مدير عام الإعلام السابق محمد عبيد، ومحمد عباس
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 826 - الخميس 09 ديسمبر 2004م الموافق 26 شوال 1425هـ