العدد 826 - الخميس 09 ديسمبر 2004م الموافق 26 شوال 1425هـ

سؤال التخلف... وأجوبة التقدم

الفكر العربي - الإسلامي بين العقل والنقل (6)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تفاقمت أزمة الوعي منذ نهاية القرن التاسع عشر حين ادرك المسلمون ان عالمهم في تراجع... وعالم الغرب (الأوروبي آنذاك) في تقدم. اكتشاف التخلف كان بداية وعي جديد للتاريخ تضمن طرح السؤال عن أسباب التخلف بغية التوصل إلى اتفاق على عوامل التقدم.

سؤال التخلف فتح باب النقاش وأعاد طرح جملة موضوعات على بساط البحث والسجال. فالسؤال جاء رداً على التحدي الأوروبي ونجاح الغرب في تعديل موازين القوى وكسر النفوذ الإسلامي في جنوب آسيا وشرق أوروبا وعمق إفريقيا.

إلا أن السؤال الواحد لم يقفل نفسه على جواب واحد أو موحد بل كانت هناك ردود متناقضة. وساهم تهافت الأجوبة في تأسيس حالات سياسية متضاربة في منابتها الفكرية ومصادرها الثقافية. وتركزت مشكلة الأجوبة حين رأت التقدم الأوروبي انه مجرد منظومات ايديولوجية، وأن تلك الأفكار المنظمة هي أساس التقدم وليست نتاجاً له.

وعلى هذا القياس المغلوط اتجه الإصلاحيون (المسلمون) نحو قراءة معكوسة للتطور، فوجدوا في التخلف مشكلة فكرية وفي حال تم فك تلك العقدة الايديولوجية (التنظيمية) يمكن الانتقال من حال إلى حال ودخول معارج «الحضارة» وما تحمله في باطنها من تقنيات ومفردات وسلوكيات.

وبسبب البؤس العام الذي كان يحيط بعالمنا جاءت الأجوبة بائسة ويائسة. فهناك من وجد في الماضي مشكلة حاضرة تمنع التقدم، فقام بنقد الماضي بينما كان الواقع يلح على نقد الحاضر. وهناك من وجد في توقف الاجتهاد وتعطله أساس المشكلة فقام بتوليف أقيسة للتخلف والتقدم لا تنسجم مع عالم يتجه نحو التدويل، فاختصر المشكلات بالتركيز على الجوانب الداخلية للتخلف ولم ير العوامل الخارجية التي تضبط ايقاع علاقات الدول وتوازن مصالحها ودور موازين القوى في كسر صراع الإرادات. وهناك من وجد في التنظيمات جوهر التخلف، ورأى ان المشكلة تنحل في حال تم التوصل إلى صيغ تنظيمية حديثة ترفع من شأن الدولة (السلطنة آنذاك) والأجهزة (الجيش تحديداً) وتعيد أدراجهما في سياق التحدي التاريخي.

تعددت الأجوبة واشتملت على آراء وطروحات تراوحت بين التربية والتعليم إلى الثكنة والمدفع وصولاً إلى الرجل والمرأة. وتضاربت الأجوبة (الاقتراحات) وتفرعت البرامج وتوزعت على منابت ايديولوجية غير متفقة أصلاً على جوهر السؤال: ما هو سبب التخلف، وكيف يمكن ان يتقدم العالم الإسلامي؟

ويمكن قراءة عشرات الأجوبة المنثورة أو المنشورة في أعمال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبدو ورشيد رضا وشكيب ارسلان وأبوالأعلى المودودي وأبوالحسن الندوي وصولاً إلى مالك بن نبي وغيرهم من الاعلام والادباء. كل هؤلاء اجتهدوا للرد على ذاك السؤال الذي جاء في صيغ لفظية مختلفة لكنه كان يعكس القلق الداخلي والتوتر الدائم في الصلة مع الذات أو في رؤية الآخر من منظار المختلف أو المتخلف.

تبعثرت أجوبة السؤال من «ماذا خسر العالم من تخلف المسلمين؟» إلى «لماذا تخلف المسلمون وتقدم الغرب؟» وجاءت كلها تقرأ التخلف والتقدم من زاوية فكرية لا تاريخية. وغلبة الفكري على التاريخي انتج هواجس ايديولوجية متنافرة جمعت بين العصاب والعصبية من دون أن تصل إلى تأسيس معرفة مستقلة أو تكتشف الطريق الخاص للتقدم.

عانت مجموعة الأجوبة من مشكلتين:

الأولى: المقارنة بين حالين (نمطين، نموذجين، ظاهرتين) من دون الانتباه إلى اختلاف ظروف المكان والزمان. فاسقاط الخاص من التحليل العام ادى إلى اهمال معنى الفوات الذهني واختلاف المواقع فانتهت المحاولات إلى تراكم سلسلة من الذهنيات (العقليات) القاصرة عن رؤية تعقيدات العالم المعاصر ودور التدويل (الاقتصادي، السياسي، الثقافي) في كسر نمو قوة مستقلة تريد الانفراد بنفسها.

الثانية: التقليد الذي يقوم على مبدأ الاستنساخ واستيراد تجربة من دون قراءة خصوصيات تلك التجربة وعواملها الأهلية (هويتها) في انتاجها التاريخي (التراكمي) ومن ثم إعادة تقويمها وتطويرها قبل الاقدام على تنظيرها فلسفياً. فالفلسفة الأوروبية وأنظمتها لم تنتج التقدم الأوروبي بل الأخير انتج الأول. وبسبب تلك الرؤية المقلوبة تحولت المناهج الأوروبية من خلال العبارات الفكرية للتيار الإصلاحي (المسلم) إلى فوات ذهني، أي ايديولوجيات تدرب الذهن على السجال من دون ان تكون لها قيمة تاريخية. إذ في لحظة نقلها ومحاكاتها كانت فقدت وظيفتها التحديثية وباتت في موقع لا تاريخي، ولا دور واقعياً لها في انتاج التقدم.

استنبط الإصلاحيون الكثير من الأجوبة واستخلصوا الكثير من العبر وانتجوا المقالات التي وصفت شوارع باريس ونظافتها وانتظام العلاقات ونقاوتها والتزام القانون واحترامه وتساوي الناس أمام الدستور ومواده. وقرأ الإصلاحيون القرآن الكريم وأعادوا تفسيره بهدف البحث عن صلة بين الشريعة والعلم وايجاد ذريعة شرعية لحث الناس على دراسة علوم الغرب والاستفادة منها تقنياً وتنظيمياً وتربوياً وإعادة تطبيقها في «الشرق» حتى يلتحق بركاب التقدم.

اتبع الإصلاحيون خطوات السلف فانقسموا إلى تيارين: الأول قلد فقهاء الفلسفة (الصلة بين الشريعة والحكمة) والثاني قلد فلاسفة الفقه (كل ما هو عقلي وعلمي ومتفق على صحته هو شرعي بالضرورة). وفشلت تلك المحاولات في اللحاق بالغرب. فالتقدم في العالم الإسلامي كان يشق طريقه خارج تلك المحاولات في وقت كانت الفجوة بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي (الأميركي) تنمو وتزداد اتساعاً.

في مقابل فشل نظرية اللحاق تأسست عملية الالتحاق بالغرب وتحولت إلى قوة ضغط تدفع الانتاج إلى التراجع وتزيد من الاستهلاك وبالتالي ترفع درجة الاتصال من حاجة مؤقتة إلى ضرورة لا غنى عنها.

لاشك في أن أفكار تيار الحركة الإصلاحية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لم تتشابه في نواياها. فهناك من اراد التقدم لتفكيك الدولة (السلطنة) مستقوياً بالنزعة القومية ونموها التاريخي في القارة الأوروبية. وهناك من طلب التقدم بهدف تعزيز وحدة الدولة والاحتفاظ بمظلتها التاريخية لتبرير شرعية الاستقلال والنهوض.

إلا أن تلك الأفكار المتضاربة في نزوعها «التقدمي» ومراجعها ومصادرها ومنابتها اتفقت على منهجية اتصفت بقلة الابتكار وضعف الإدراك التاريخي لأسباب التقدم. فمجموع الأفكار كان يتحدث عن نتائج التقدم لا أسبابه. فانقلب التحليل إلى مقاربة النتائج (تقليدها) لا معرفة اسبابها والأخذ بها عن طريق قراءة عناصرها المركبة من توسع جغرافي خارجي (تدويل) وتماسك داخلي (دولة قوية) وصلة قوة الداخل بالسيطرة على الخارج (امتداد المصالح والامساك بالثروات).

إلى المقاربة كانت المحاكاة عن طريق المقارنة بين مستويين من العيش والرفاهية والضمانات من دون الأخذ بأهمية القياس وشروطه التي تبدأ من قاعدة بسيطة وهي ان صحة القياس بين مسألتين (نموذجين) تشترط ان تكونا من صنف واحد (جنس واحد). فشرط القياس (المقارنة) هو وحدة الصنف (الجنس) والا كانت نتائج القياس (المقارنة) خاطئة. وقياس الإسلام على أوروبا على سبيل المقارنة والتقليد كان في أساسه غير قابل للتطابق، فجاءت النتائج كارثية في منطقها النظري أو في قابليتها للتحقق.

ساهم سؤال التخلف في توليد أجوبة لا حصر لها مسكونة بهواجس الخوف من الفوات الزمني فتأسست في ضوئها مفاهيم النخبة - الانقلابية (الحزبية) التي وجدت في الجيش وسيلة للانقضاض على الدولة وأهلها مدفوعة بتصورات لا تاريخية عن التقدم وأسبابه. ونزوع النخبة إلى «التقدم» السريع دفع المجتمع إلى التمزق والدولة إلى مصادرة القوة وضبط الأهل بقانون الاستبداد أحياناً وصناديق الاقتراع أحياناً أخرى.

سؤال التخلف أنتج أجوبة عانت من فوات ذهني يعتمد المقارنة والتقليد، ويميل إلى العلوم النظرية ويبتعد عن العلوم العملية فانتهت السجالات إلى إعادة انتاج مقالاتها وتكرار قراءة الموضوعات من دون ربط الزمني بالعملي والنظري بالواقعي والكلي بالجزئي. فتقليد التقنيات (تجربة التصنيع في الجزائر مثلاً) انتج الفقر والبطالة والديون ولم يسد حاجة المجتمع إلى الصناعات في وقت تدهورت الزراعة وفرغت سلة الغذاء. ومحاكاة العلوم (جامعات واختصاصات لا صلة لها بالسوق الداخلية) انتجت متعلمين من دون علوم وثقافة ووظائف أسفرت عن تبطل النخبة المثقفة وامتناعها عن العمل اليدوي فاتجهت للاعتماد على مساعدات الدولة والبحث عن وظائف لا صلة لها بالاختصاص ولا فائدة عملية منها... أو تعويض النقص المحلي بالاتجاه نحو السفر (الغرب) بحثاً عن مكان يناسب الشهادة في السوق الدولية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 826 - الخميس 09 ديسمبر 2004م الموافق 26 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً