في فيلمه عن «الاسكندر المقدوني» يكشف المخرج أوليفر ستون عن جوانب غير معروفة في تلك الشخصية الخلافية التاريخية. وهذه الجوانب التي ركز عليها ستون في فيلمه ليست بالضرورة صحيحة أيضاً فهي أقرب إلى وجهة نظر أو فرضيات يمكن استخلاصها من بطون كتب التاريخ التي تحدثت عن «الاسكندر» كأسطورة. ستون ليس مؤرخاً إلا انه يتخذ من وقائع التاريخ مادة لقراءة مغايرة لتلك التي تعارف عليها المؤرخون. ستون سينمائي وهو من المخرجين السياسيين وقد اتجه في أفلامه إلى إعادة قراءة التاريخ والتشكيك بالروايات المنقولة والمكتوبة ضمن وجهة مغايرة تتعمد إثارة الأسئلة بغية طرح مفاهيم تحاكي عصرنا.
تميزت أفلام ستون بالمخالفة والشك في كل ما يقال عن قضية معينة. فهو مثلاً أثار الكثير من الأسئلة في رؤيته للحرب الأميركية على فيتنام منتقداً السائد عنها. كذلك أثار الكثير من علامات الاستفهام بشأن الرواية الرسمية عن حادث اغتيال الرئيس الأميركي جون كنيدي. الشك في التاريخ هي نظرية سياسية اعتمدها ستون لطرح رؤيته عن زمننا ضمن أسئلة قلقة تثير علامات استفهام بشأن ما هو متعارف عليه. والقصد من هذا النوع من القراءات المغايرة هو إثارة الجدل بشأن مسلمات لا تقبل الحوار أو النقاش. وهذا ما فعله ستون حين تناول شخصية الاسكندر وعالجها من زوايا متعددة ورؤية مخالفة ليقول في النهاية مجموعة كلمات لعلها تصل إلى «أبطال» يدعون أنهم «مكلفون» بتغيير العالم.
الاسكندر هو ملك ابن ملك، وتلميذ الفيلسوف أرسطو. وهو تربى من صغره على طلب العلم والمعرفة وفنون القوة والبحث عن المجد والعظمة. انه بكل بساطة اسطورة في رجل شاءت الأقدار أن يتبوأ العرش وهو في سن لم يتجاوز العشرين من عمره.
هذا الشاب الطموح حاول تغيير العالم وتوحيده تحت سلطته وضمه بأجمعه ليصبح ولايات تابعة لمقدونيا. وحتى يتحقق مراده كان لابد له من اجتياح العالم وتدمير كل من يعترضه وسحق الامبراطوريات القديمة وإعادة تشكيلها من جديد ضمن رؤية مختلفة ومتجانسة ومتناغمة.
اعتمد هذا الشاب على نظريات معلمه أرسطو وسار عسكرياً وفق الخريطة التي وضعها بطليموس عن جغرافية العالم. ومن النظرية بدأ القائد العسكري وملك مقدونيا رحلته الطويلة. ابتدأ.. باليونان (أثينا) فحطمها وأعاد بناء مدنها. ثم الأناضول فدمرها وأسس الاسكندورنه. وجاء إلى ساحل بلاد الشام فسحق كل المدن الكنعانية (الفينيقية) الزاهرة والمزدهرة والمنافسة لليونان على زعامة المتوسط فدمرها وأحرقها وصولاً إلى غزة ومنها إلى مصر. وهناك تجددت الاسطورة وبنى الاسكندرية التي ستصبح يوماً ما جوهر البحر المتوسط. ومن مصر عاد ليجتاح بلاد الرافدين وينتزع بابل من الفرس ثم اقتحم بلاد فارس وأسقط امبراطوريتها ويتوجه شرقاً إلى أفغانستان والهند.
أكثر من 50 معركة خاضها الاسكندر ودمر عشرات المدن وبنى 20 مدينة حملت اسمه بقصد تحقيق التجانس والتناغم... ومع ذلك لم ينجح في تصوره. فالعالم أكبر مما تصوره بطليموس، كذلك الشعوب مختلفة وهي ليست كما شرحها له معلمه أرسطو.
اكتشف الاسكندر من حروبه الطويلة والمستمرة ان العالم أكبر من مقدونيا وان الزمن طويل والصراع مع الوقت سينتهي بهزيمة من يعتقد أنه يستطيع تغييره بلحظات وبجولات.
منذ دخول بابل اكتشف الاسكندر ان معلمه (أرسطو) على خطأ فهذه الشعوب ليست متخلفة وتنتمي إلى أجناس منحطة بل هي قديمة وتملك حضارات وثقافات وفنوناً مختلفة، بل هي في بعض طبائع العمران أكثر رقياً من أثينا ومقدونيا. واكتشف أيضاً ان القوة لا تغير التاريخ والحقائق يصنعها الزمن ومن الصعب تحطيمها وسحقها ودمجها وضبطها في عالم جديد بوقت قصير. فالعالم كبير ومتنوع وتشعباته الثقافية والحضارية معقدة وليست منسجمة ويصعب جعلها متناغمة تسير كلها في خط واحد وتتعايش في إطار محكم من المقولات والنظريات.
التجربة الميدانية إذاً كانت مختلفة عن دروس المعلم كذلك أثبتت الممارسة ان النظرية خاطئة أو على الأقل غير دقيقة. فالعالم هو العالم ومقدونيا هي مقدونيا، والاسكندر تحول إلى أسطورة ولكنه في النهاية مجرد إنسان في زمن ممتد لا يعرف أوله ولا أحد يدري كيف ستكون نهايته. ومات الاسكندر الشاب مكتشفاً ان الواقع أكبر من الحلم وان النظرية غير الممارسة.
حاول ستون من خلال تناوله لشخصية الاسكندر الاسطورية ان يوجه رسالة للحاضر ويقول لتلك «الحفنة الشريرة» في واشنطن إن العالم كبير والزمن طويل وكل ما يقال عن تخلف الشعوب الأخرى ليس صحيحاً بالضرورة. فكما فشل الاسكندر في حلمه وأحبطت طموحاته وانهزم مجده في الهند فإن مثل هذا الأمر ليس بعيداً أن يحصل ثانية في عصرنا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 824 - الثلثاء 07 ديسمبر 2004م الموافق 24 شوال 1425هـ