العدد 823 - الإثنين 06 ديسمبر 2004م الموافق 23 شوال 1425هـ

مجتمعات زراعية في عالم ما بعد الصناعة

العرب وتوترات الأزمنة المتغيرة (2/2)

محمد جواد رضا comments [at] alwasatnews.com

قاد اقتصاد المعرفة إلى خلق مجتمع جديد تميز من المجتمعين المتقدمين عليه «مجتمع ما قبل الصناعة» و«المجتمع الصناعي»، وامتاز عليهما ليكون «مجتمع ما بعد الصناعة»، فأين تقع المجتمعات العربية من كل هذه التحولات؟ وأين تقع المجتمعات العربية المعاصرة من تحولات العالم، وهل يمكن لهذه المجتمعات أن تدرك طبيعة هذه التحولات؟ وأن تقبلها وتتوافق معها؟

سيكون من قبيل التبسيط المضلل إعطاء إجابة تفسيرية واحدة على هذا السؤال متشعب الطوايا والثنايا عقلياً واجتماعياً ونفسياً. ولكن مدخلاً هادياً إلى تفهم متأمل في طبيعة المشكلة التي يطرحها السؤال يبدو ممكناً. هذا المدخل يبدأ بالإقرار بأن المجتمعات العربية ما تزال مجتمعات زراعية قبائلية تعيش في عالم أعادت بناءه الصناعة ثم تجاوزته.

ليس من الضروري أن يعيش الناس على الزراعة فعلاً ليكونوا مجتمعاً زراعياً. إن مجتمعات النفط العربية تركت الزراعة والرعي منذ زمن وهي لم تعد تنتج حتى طعامها وهي كانت في تسعينات القرن العشرين تنفق في العام الواحد (555 مليون) دولار على أطعمتها المستوردة، كما أن العالم العربي كان في تلك الحقبة يستورد من الحبوب ما مقداره 28,078,000 طناً مترياً في كل عام (6) والمتوقع في مطلع القرن الجديد، القرن الحادي والعشرين، أن ينفق العالم العربي (50) مليار دولار سنوياً على أطعمته المستوردة خلال العقد الأول من هذا القرن فقط (7).

إن التراجع الزراعي والرعوي في العالم العربي لم يجعل هذه المجتمعات مجتمعات صناعية على رغم أنها تحفل بالكثير من الصناعات الخفيفة والمتوسطة. إن استيراد الصناعات والمصانع لا يجعل المجتمع صناعياً طالما أن استيراد الصناعات والمصانع لا يغير نظام التفكير العام عند الناس ولا نظام القيم الذي يشكل علاقتهم بالعالم الإنساني ولا بالكون الطبيعي.

أكثر من كونه آلات ومكائن... التصنيع مفهوم كلي للتدخل في الطبيعة وتسخيرها لتقدم الإنسان وارتقائه الاجتماعي والاقتصادي. بعبارة أخرى... التصنيع هو طريقة علمية لإعادة تشكيل حياة الإنسان وجعلها حياة ذات منظور أخلاقي مشتق من طبيعة العلم الخاصة. ولهذا فإن الآثار الاجتماعية والأخلاقية للتصنيع مزعجة بالضرورة للمجتمعات العربية التي عاشت على الزراعة والقبلية ردحاً من الزمن طويلاً وظلت متمسكة بقيم ذلك النمط الحياتي الاقتصادي حتى الوقت الحاضر مطمئنة إلى أن قيم ذلك النمط قابلة للبقاء والفعل في الأوضاع الإنسانية الجديدة. ربما كان في هذا الإدراك المضطرب تفسير للمناداة بالتصنيع في العالم العربي ورفض تبعاته السياسية والاجتماعية والأخلاقية. التصنيع يخلق طبقة اجتماعية جديدة ليس لها وجود قبل التصنيع هي الطبقة العاملة. هذه الطبقة ستطالب بحقوق اقتصادية وسياسية غير مسموع بها قبل التصنيع مثل حقوق المشاركة في وضع سياسة الإنتاج وتقرير مستوى الأجور. وهكذا يقود التصنيع إلى ميلاد قوة سياسية جديدة ليست بذات طبيعة أوتوقراطية، قوة ترفض الحكم الأوتوقراطي لأنه يتعارض ومصالحها ووعيها لدورها في المجتمع. تحت ضغط الحاجة إلى المزيد من الأيدي العاملة المدربة، يوجب التصنيع استخدام المرأة في المصانع والأسواق بأجور ومنافع متساوية مع أجور الرجال ومنافعهم وبهذا يفند المشروع الصناعي الادعاء القديم بأعلوية الرجل على المرأة ويساوي بينهما في القيمة الإنتاجية وفي الحقوق والواجبات السياسية والاجتماعية ويربط تقدم العاملين والعاملات إلى المناصب القيادية بالكفاءة والإبداع فقط. التصنيع يتعارض مع المحافظة التي تتحول إلى جمود اجتماعي وهو في الوقت ذاته يرفض أنماط التفكير الغيبية المفتقرة إلى التبرير البرهاني القاطع والتصنيع لهذا الغرض يتطلب تربية من نوع جديد... تربية تنقل الناس من (ثقافة التصديق) الاتباعية إلى (ثقافة التحقيق) الإبداعية وهذا ما لم تفعله التربية العربية خلال القرن العشرين فأمسكت الناس في (ثقافة التصديق) وجعلتهم يخملون حيث كان الآخرون ينشطون وابتلتهم بنوع من (نقص المناعة) الفكري صرفهم في نهاية المطاف إلى الارتداد إلى الماضي والاحتماء به في حين كان الغرب يخترق حجب الغيب الكوني فيتجاوز الأرض ليسبح في الفضاء ويمشي على القمر أو يغوص في أعماق البحار.

إن ما يميز (ثقافة التصديق) التي يفرزها ويصدقها ويتمسك بها المجتمع الزراعي هو التمسك بالموروث الثقافي من أنماط التفكير والعمل من جهة، ومقاومة التجديد ومحاربته من جهة أخرى.

لقد كانت هذه مشكلة أزلية عانتها المجتمعات عبر التاريخ وقد أكدها القرآن الكريم في أكثر من موقع من حيث هي عقبة في طريق تسامي الإنسان روحياً ومادياً.

جاء في (سورة المائدة: 104):

«وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا... أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون...».

المجتمعات العربية المعاصرة ليست بدعاً بين سائر المجتمعات المأسورة بالماضي والعاجزة عن مقاومة قيده عجزاً يدفع بها إلى مزيد من التناقض بين الفكر والسلوك، بين المثال والواقع الذي يملي منطقه على الناس والأشياء فيتمزقون بين حاضر عالمي يبهرهم بإنجازاته العلمية في وجوه الحياة كلها وبين ماضٍ يخافون مغادرة أمجاده لأنهم يتوهمون أنهم يستمدون من تلك الأمجاد مكانتهم في الحاضر الذي لم يسهموا في صنعه بشيء من الإبداع أو العطاء.

في صفحة كاملة من صفحاتها الثقافية نقلت صحيفة «البيان» الإماراتية يوم 19/3/2004م كلاماً مفصلاً لمفكر إماراتي عن إمكان علاج كل أنواع السرطان بتلاوة القرآن الكريم وبالرقى التي يصنعها السحرة الذين تطيعهم الشياطين، وكان حديثاً عجباً. ففي معالجة السرطان بتلاوة القرآن الكريم لا يشترط - وفقاً للمفكر الإماراتي - أي شيء من التشخيص المختبري وإنما يكفي للمعالج:

«أن تكون له القدرة على التحمل وأن يكون واسع الصدر وهادئ الطباع وأن تكون له القدرة على احتواء المريض والتقرب منه والاهتمام به والحصول على ثقة المريض...».

الشرط الثاني المطلوب في المعالج:

«أن يؤمن بأن عمله رسالة إنسانية واستمرار لرسالة الأولياء والصالحين...».

ثم هناك شرط عقائدي لعلاج السرطان بالقرآن الكريم هو أن يكون المعالج:

«على دراية تامة بعقيدة أهل السنة حتى لا يشكك الشيطان في عقيدته...».

ليس هذا وحسب بل أن المعالج (يجب أن يكون من أهل السنة والمداومين على عمل أهل السنة والاقتداء بهم).

في هذا النوع لعلاج السرطان الذي يطلق عليه المفكر الإماراتي اسم (الطب البديل) يكون الحسد (العين) السبب الرئيسي للإصابة بالسرطان:

«ومن خلال الحالات الكثيرة التي قمت بإذن الله بعلاجها وتم شفاؤها بإذن الله كان الحسد السبب الرئيسي لهذا المرض...».

وليست حكاية الرجل الذي صاحبه الجني (مسعود) بأقل دعاء إلى التأمل من تشخيص السرطان بالحسد.

في تاريخ 21/6/2004 نقلت صحيفة بحرينية حكاية الرجل الذي تعايش مع (الجني مسعود) 15 سنة «عاشها معنا في بيتنا ولم أكتشف حقيقته كواحد من أبناء شعوب العالم السفلي إلا صدفة وعن طريق الملا (ك) الذي أعطاني إشارات واضحة عن هوية ذلك القط الأسود الذي يفتح حنفية الماء بيده، ناصحاً إياي بعدم ترك البيت والهرب بعيداً لأنه قط يتحول إلى غراب سريع الطيران ويمكن أن يلحق بي حتى ولو رحلت إلى الصين». وفي كلمات قليلة أقول «توطدت المعرفة بيني وبين هذا القط الجاني فأخذ يخرج أمامي مرة في صورة امرأة مبرقعة وفي أخرى رجل مرتدي الزي الشعبي (الغترة والعقال) وأخيراً عرض عليّ الزواج من ابنته مشمشة».

كانت حكاية الرجل مع (الجني مسعود) تحمل مفارقتها الحضارية معها فقد قال صاحب مسعود:

«... إن الجان لا يعيش إلا وسط الأماكن الخربة والمظلمة... ومنطقتنا أصبحت حالياً أشبه بمدينة متقدمة عمراناً وطبيعي أن يهجرها أهل العالم السفلي... ومنذ حوالي 19 سنة انتقلنا من بيتنا القديم إلى بيت حديث في مناطق إسكانية جديدة ومثل هذه المناطق غير مناسبة لإقامة الجان». اختتم صاحب مسعود حديثه مع «الصحيفة» بتأكيد أمرين:

إن الجن لايزالون يوجدون في البحرين ولكنهم ربما عاشوا في مناطق البراري حيث الأوضاع ملائمة لهم للعيش والتكاثر في صمت بعيداً عن إزعاج وضوضاء البشر.

إن مسعود جني قادم من حضرموت.

في أمة كالأمة العربية مجدها هو ماضيها ليس هناك من يماري في قيمة الموروث الثقافي ولا في قداسة المقدس منه. ولكن الخطأ الذي يقع فيه التراثيون هو أنهم يلتزمون جانباً من التراث ويهملون ما عداه. يأخذون بترات التقليد والأتباع ويهجرون تراث العقل والإبداع وفي هذا مجافاة لسماحة الرسول (ص) وإجازته تعددية الرؤى. فالمعروف أن الرسول (ص) شرع شرعة للعقل موازيةً لشرعة الوحي، ذلك هو أمره عليه السلام في قضية (تأبير النخل):

«أنتم أعلم بأمور دنياكم...».

ومفهوم المخالفة في هذا الأمر هو (أنا أعلم بأمور دينكم وأنتم أعلم بأمور دنياكم). ومثل هذا كان فعل الرسول في معركة بدر إذ لم يجد (ص) غضاضة في أن يعترض الناس عليه بـ (الرأي) حيثما قضت المصلحة العامة بذاك.

فهو عندما أمر أصحابه في معركة بدر أن ينزلوا أدنى ماء قال له الحباب: أهذا منزل أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخره أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول (ص): «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال الحباب: «فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من قريش فننزله». فقال الرسول (ص) (لقد أشرت بالرأي) ثم قام وترك منزله.

هذه الشواهد وأمثالها كثير هي تيسير على الناس في حرية التفكير وحرية الاعتقاد وحرية الضمير وحرية العمل وهو أمر كفله القرآن للناس فكيف نصادره منهم.

«ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (سورة يونس: 99).

هذه الشواهد وأمثالها هي رخصة قائمة للسير في طرق متعددة نحو الحق ما دامت تلك الطرق غير متناقضة مع روح الشرع الذي هو خير الإنسان وسعادته.

إن الجمود والدوكماتيكية اللذين يتمسك بهما بعض العرب التراثيين، يضعان العرب عموماً في موقع العداء من حضارة الزمن الراهن وموقع العداء هذا يزيد في عزلتهم عن العالم المتبدل من حولهم ويحول بينهم وبين الوصول إلى الحلول العملية لمواجهة مشكلات الحياة. الجمود والدوكماتيكية يجعلان العرب ينشغلون بصغائر الأمور المنافية للعقل والتي لا علاقة لها بالدين مثل تحريم قيادة السيارة على المرأة. كذلك فقد جعلهم الجمود والدوكماتيكية يتكلمون بلغة غريبة عن منطق العصر وتزيد غربتهم عن العالم الذي يعيشون فيه. لقد دعا أحد قادة الفكر الديني الطائفي الذي يهيمن على المشهد السياسي في العراق اليوم إلى خطف المجندات البريطانيات - في مدينة البصرة التي يحتلها البريطانيون - وتسليمهن إلى مركزه الديني لمعاملتهن كـ (جواري ) استناناً بسنة الغزو التي كانت مألوفة في الحروب القديمة. أين يمكن التماس تفسير موضوعي لهذه التناقضات مع العصر التي يعانيها عرب اليوم؟ إذا استبعدنا سوء الظن وإذا اسقطنا تهمة العجز العقلي... فإننا نلتقي التفسير الأقرب إلى الواقع النفسي الذي عانته المجتمعات العربية خلال القرن العشرين وأسلمهم إلى القرن الحادي والعشرين وهم في حال من الشلل الإرادي تمنعهم من تقبل حضارة الزمن الجديد الذي يجدون أنفسهم فيه اليوم.

لقد حاصرتهم الحضارة الحديثة دفعة واحدة وأيقظتهم من سبات عميق كانوا يمجدون أنفسهم فيه بأنهم «خير أمة أخرجت للناس» من دون الاعتراف بأن الخيرية الواردة في الذكر الحكيم هي خيرية مشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى أنكم تكونون خير أمة أخرجت للناس مادمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فإن لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر فلستم خير أمة أخرجت وفي هذا يستوي العرب وغير العرب.

في مشروعه الكبير (A Study of History) يقرر أرنولد توينبي أن إحدى الخاصيات الأساسية للحضارة تتمثل في الطبيعة الحركية Dynamic التي يجب أن تميز الحضارة نفسها بها لتكتب لها الديمومة والاستمرار. في هذا الإطار يقول توينبي إنه في كل مجتمع من المجتمعات مجموعة من الأعراف Customs والقواعد Rules مكتوبة وغير مكتوبة، بعضها جامد وبعضها مرن، وهذه الأعراف والقواعد هي التي تتحكّم في سلوك الأفراد باعتبارهم أعضاء في المجتمع. إن المجتمع نفسه قام نتيجة الفعالية الخلاّقة لرجل ما أو لجماعة صغيرة من الرجال استجابة إلى تحدّ جوبهت به الجماعة كلها. حقاً إن كل عرف أو قاعدة وُجد أصلاً في فعالية فردية، وإن المجموع الكلي للقواعد والأعراف - وهو ما يوافق توينبي على تسميته بـ «كعكة التقاليد Cake of Customs»- كان قد خُلق من خلال محاكاة الجمهور والأفراد المتميزين في أنماطهم السلوكية، والاستعدادات والعواطف والأفكار التي ابتدعتها قلّة خلاّقة، وقامت الأجيال التالية - عن طريق التمرين Drill الاجتماعي الوراثي - بتثبيت تلك الأنماط والاستعدادات في (كعكة التقاليد). وفي المجتمعات البدائية التي نعرفها الآن، ينصبّ التقليد على محاكاة الأجيال المتقدمة في العمر وعلى محاكاة الأجيال السالفة. وفي المجتمع الذي ينحو فيه التقليد هذا المنحى الرجعي backward، تظل قواعد التقاليد والمجتمع ثابتة Static. أما في المجتمعات التي تتعرض لمخاض حضاري، فإن التقليد ينصبّ على «محاكاة الشخصيات الخلاّقة التي لها من يأتّم بها لأنها هي طلائع المستقبل». في المجتمع الذي ينحو هذا المنحى التقدّمي Forward، تتهشّم « كعكة التقاليد»، ويصبح المجتمع في حال دينامية، ويسير بمحاذاة طريق التبدل والنمو. من هذا التضاد بين حركة دينامية وحالة ساكنة، نقع - كما يعتقد توينبي - على معيار جيد لتمييز الحضارة من البدائية. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه المجتمعات العربية اليوم... كيف نهشم « كعكة التقاليد» ونحرر العقل العربي ونحرر الإرادة في الإنسان العربي.

القسم الثالث: المخرج؟

ليست هناك مشكلة إنسانية لا يستطيع العقل الإنساني أن يجد لها حلاً شريطة أن يطرح الإنسان الأسئلة الصحيحة عنها. وحال التناقض بين العرب والعالم المعاصر... مثل غيرها من مشكلات الإنسان مرهونة بطرح السؤال الصحيح عنها. لقد درجنا خلال القرن العشرين نسأل السؤال الخطأ عن علاقتنا الإشكالية مع العالم:

من فعل هذا بنا؟

وكان من تمام منطق الأشياء أن يقود السؤال الخطأ إلى الجواب الخطأ فسقطنا أسرى نظرية المؤامرة والبحث عن أعداء يأتمرون بنا ويعملون على تخلفنا. ولو أننا سألنا السؤال الصحيح: أين الخطأ فيما صنعناه نحن بأنفسنا؟ وفيما لم نصنعه لأنفسنا؟ لكنّا أكثر صدقاً مع ذاتنا وأكثر شهامة في نقد أنفسنا وتبيّنت مسئوليتنا عن قصورنا وعن ضعفنا بين أمم الأرض.

والقضية اليوم هي كما كانت بالأمس... أن نبدأ بالبحث عن الخطأ فيما فعلناه وفيما لم نفعله بأنفسنا حتى اليوم، فإن لم نفعل هذا فإننا سندخل في مزيد من الخصام مع العالم.

في طلب الجواب الصحيح يجب أن نتجنب خطاب البكائيات العربية وجلد الذات. إننا يجب أن نتعامل مع قصوراتنا على أنها - بلغة آرنولد توينبي - تحديات تتطلب استجابات صحيحة. من موجبات التفاؤل باختيار الاستجابات الصحيحة... تكاثر عدد الدعاة إلى الاعتراف بالتقصير ومطالبتهم المجتمع بوعي الأخطار التي تتهدده إن هو تمادى في تجاهله لما يقع حوله في العالم من تحولات القوة والمعرفة. في تفسيره لأحد عوامل العزلة عن العالم ربط المرحوم يوسف الشيراوي بين ما فعله النفط من انقلابات مفاجئة في حياة المجتمعات الخليجية وبين رفضها لمنطق العلم. قال الشيراوي: «لم يكن أحد مهيئاً للأموال التي نزلت علينا من خلال فورة النفط في السبعينات. ولما كان علينا أن نختار فقد تقبلنا ظواهر الحضارة الغربية ورفضنا قوانينها. فنحن مثلاً قبلنا التكنولوجيا ولم نقبل العلم. ولما غُمتْ الرؤية على الناس هرعوا إلى الدين بحثاً عن الاطمئنان».

وفي تأكيد مماثل على نقد الذات الجماعية وحمل المسئولية عن التقصير وفي ربطه بين الحضارة والضمير ينبه محمد بن جاسم الغتم منذ سنة 2000:

«ان المجتمع الذي يرتكز على الأنانية الفردية وحب الذات لهو مجتمع يسعى حقاً نحو التدمير الذاتي. ولنرجع معاً بالذاكرة التاريخية إلى الدمار الذي سببته الرومانسية والعاطفة والحب والشعر في سقوط الأندلس وتحطم الحضارة الإسلامية العربية وأبعادها عن منهجية التفكير العلمي البنّاء الصحيح...».

هذان نموذجان جيدان للانطلاق من نقد الذات إلى التماس الخروج من المأزق الحضاري.

حقاً... إن المخرج من المأزق سيكون متعدد الوجوه والطرق. ولكننا في إطار هذا الحديث سنقف عند اثنين من هذه الوجوه:

أول ما يجب أن نتحرك منه هو وجوب الاعتراف بعمق الهوة الفاصلة بيننا وبين المجتمعات الصناعية ووجوب تعظيم الإحساس بعمق الفجوة الحضارية بيننا وبين الغرب. إن ما يفصل بين العرب والغرب اليوم هو أكثر من التصنيع. إن ما يفصل بين العرب والغرب هو أربع ثورات عظمى هي: الثورة الدينية، الثورة الفكرية، الثورة الجغرافية، الثورة السياسية، ثم... ظهور الدولة القومية المتوحدة.

كل هذه الثورات حدثت قبل الثورة الصناعية ولكنها تقدمت ببطء مؤذنة بتكيّف تدريجي لكل العلاقات الاجتماعية. وهكذا فإن أوروبا كانت قد سلفت عليها قرون عدة من التحولات الفكرية أعانتها على قبول التغير واعتياده الأمر الذي نضح الفكر الغربي بدرجة عالية من المرونة العقلية والتسامح مع قضايا التطور الاجتماعية مادية وأخلاقية.

إن تقرير هذه الحقيقة وجلاءها في عقولنا جميعاً سيكشف عن الجهد المضاعف الذي يجب أن نبذله لنختزل مسافات الزمن الحضاري الفاصل بيننا وبين الغرب. هذا تحد عقلي من طراز فريد. المنفذ الثاني من منافذ المأزق الحضاري هو المنفذ التربوي.

إن وعي الفجوة الحضارية بين العرب والغرب يجعل من التجديد التربوي مطلباً ملحاً. التجديد ليس بمعنى الاستعارات التعليمية من الغرب، وإنما ينبغي أن يعني انقلاباً شاملاً في مضامين التربية الفكرية والنفسية ذاتها.

لقد أهملت التربية العربية المعاصرة تنشئة الأجيال العربية على قيم حضارية أساسية معاصرة مثل: حكم المؤسسات، الإبداع في الفكر العلمي، الحرية، التعاقد الاجتماعي، الكفاءة الفردية، تحرير المرأة وتأكيد إنسانيتها، التصنيع القائم على المعرفة، توزيع الثروة والعدل الاجتماعي.

إن تدارك التقصير في التنشئة على هذه القيم والمسلكيات يتطلب تربية من نوع جديد، تربية محورها الإنسان فرداً كان أو جماعة، تربية مبدعة مادةً وأخلاقاً. تربية جسّدها تجسيداً جميلاً باولو فيراري في (تربية المقهورين Pedagogy of the Oppressed):

«إن ما يميز الإنسان المدرك عن الحيوان الأعجم هو الممارسة المبدعة للثقافة والتاريخ. إن الإنسان وحده قادر على ذلك بفضل وعيه ومعرفته... والناس في مواجهتهم العالم لا ينتجون سلعاً مادية فقط وإنما هم ينتجون أيضاً أفكاراً ونظماً ومفاهيم وبالتالي يكونون قادرين على تطوير العالم من خلال مراحل واضحة المعالم غير مغلقة وغير جامدة بل متداخلة ومتواصلة من أجل استمرار حركة التاريخ. ولكي يتحقق ذلك تكون مسئولية التربية تعظيم حرية العقل في الأفراد الجدد تعظيماً بلا حدود لكي تضمن للمجتمع أكبر رصيد من التصورات الإبداعية لمواجهة مشكلات الجماعات البشرية... تصورات ذات مضمون يحقق في النهاية حرية الإنسان».

وذلك ما يحتاجه العرب اليوم... تربية تحرر العقل العربي وتطلقه في سماوات الإبداع

العدد 823 - الإثنين 06 ديسمبر 2004م الموافق 23 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً