في الأسبوع الماضي أصدر جهاز خدمة المواطن ومراقبة أداء الجهات الحكومية في الكويت تقريراً هو من التقارير التاريخية إن صح التعبير، وهو تقرير نشرته الصحف المحلية يتناول «ظاهرة الفساد في الدولة»، والفساد بهذا المعنى الشامل هو كلمة لو بحثت عنها على الشبكة الدولية للمعلومات لانتظرنا طويلاً حتى تنتهي قائمة الموضوعات المكتوبة حولها من التسلسل، بسب كثرة ترديدها في الدراسات والمقالات التي تتناول دول ومجتمعات الشرق الأوسط.
فالكلمة أو التعبير دخل المصطلح السياسي والاجتماعي في دول الشرق الأوسط بقوة في الفترة الأخيرة، وترددت أصداؤه في التقارير الدولية، وجند الكثيرون لكشف عوامل هذه الظاهرة. ولا تخرج العوامل الرئيسية للفساد في الكويت كما ذكرها التقرير عن تلك العوامل الموجودة في بلاد أخرى، إلا انها تضيف عليها السؤال: ان كان للفساد الإداري تبرير في دول فقيرة يحتاج مواطنوها الى أقل القليل لسد الحاجات الإنسانية الأولية في حياتهم، فكيف تفسّر شيوع هذه الظاهرة في بلد غني نسبياً؟
التقرير المشار إليه يسرد بوضوح طرق الفساد الكثيرة في الكويت، فيضع الرشوة والواسطة وغلبة الولاء القبلي والعائلي والحزبي أو الطائفي على الولاء للدولة والمجتمع، على رأس القائمة المكونة من واحد وعشرين عاملاً (بعدد الدول العربية!) ثم يضيف أيضاً غياب «القدوة» في المناصب الإدارية، وشعور عام بضعف صدقية السياسيين.
خطورة الفساد الذي أشار اليه التقرير لا تنتهي عند قطاع من المواطنين، فضررها يشمل الوطن، ولعل الحسن هنا أن نتذكر بعض ما جاء في كتاب الاستبداد للكواكبي رحمه الله الذي قال: «إن الاستبداد (بأشكاله المختلفة: الديني، السياسي والاقتصادي) هو أساس جميع الفساد، وإن عاقبته لا تكون إلاّ الأسوأ، مثلما يرى في الاستبداد أكبر مشكلة يعانيها الشرق». ويعرف الاستبداد بقوله: «الاستبداد في اللغة، يعني اكتفاء الشخص برأيه في موضوع يحتاج إلى الشورى، ولكن هذه اللفظة عند ذكرها بالصيغة المطلقة تفهم باستبداد الحكام، أما في اصطلاح أهل السياسة فهي تعني تصرف فرد أو جماعة بحقوق شعب، من دون الخوف من المؤاخذة والاستجواب».
ويرى الكواكبي أن الاستبداد هو «من صفات الحاكم المنفرد والمطلق العنان، الذي يتصرف في أمور رعيته بإرادته من دون خوف من المحاسبة أو العقاب».
ما يهم الإشارة اليه هنا هو ربط الفساد بالاستبداد أو ربط الاستبداد بالفساد، لأنه ليس المهم أن نعرف طرق ووسائل وأسباب الفساد، المهم أكثر أن نفكر في كيف يمكن تطويق الفساد واجتثاثه، لأنه ليس مفسدة لمصالح أشخاص، بل مفسدة لوطن كامل، فهو يقود الى الاستبداد، بمعنى تعطيل التنمية بل شلها.
في الدراسات التي تمت على دول شرق آسيا والتي نهضت اقتصادياً نهوضاً ملحوظاً تبين أن الرافعة لهذا النهوض هي «إصلاح الإدارة الحكومية».
فإن أخذت اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان نموذجاً في التنمية الاقتصادية وأصبحت دولاً صناعية كبرى، يتفق كثير من الباحثين إن النجاح الاقتصادي الباهر الذي حققته هذه الدول، يعود الفضل فيه إلى الإدارة الحكومية الرشيدة والفاعلية التي توافرت لهذه البلدان. وشكّل باحثون في ميدان اقتصاديات التنمية ممن جعلوا ميدان اختصاصهم هذه البلدان بالذات، مدرسة فكرية جعلت الإدارة الصالحة من أساس التنمية، وربطت بين نجاح مشروع التنمية ووجود إدارة حكومية فعالة ورشيدة. معنى هذا الكلام بالعربي الفصيح انه لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق تنمية والفساد يعشش في أروقة الحكومة.
التقرير المشار إليه والصادر من جهاز خدمة المواطن يتحدث عن «الاختلاس» وكأنه في رأي البعض، استعادة بعض ما أخذه الكبار عن غير وجه حق! وهي ملاحظة كنت تسمعها في الحجرات المقفلة فأصبحت بين دفتي تقرير رسمي، إلاّ انها في الوقت نفسه لها دلالات لا تستثني أحداً، وتعني في بعض ما تعنيه وضع المجتهد الكفء في مصاف المستفيد المرتشي، هذا ما يصفه التقرير «بتكون حالة فكرية وأخلاقية في المجتمع خاضعة للفساد ومبررة له».
تقرير الكويت عن الفساد هو حال خاصة، فهو يشير إلى أن «السياسة الاقتصادية الخاطئة من العوامل بالغة الأهمية في انتشار الفساد»، إلاّ أن هذه العبارة تحتاج إلى تفسير، فمن المؤكد أن «الاقتصاد الشمولي» عامل من عوامل انتشار الفساد كما تشير دراسات كثيرة، فهل الكويت اقتصاديا «دولة اشتراكية»؟ أم أن الحالة الخاصة للكويت «اقتصاديا» هي التي تساعد على خلق بيئة للفساد؟
حقيقة الأمر أن الدراسات تشير بكثير من التأكيد إلى أن «الاقتصاد الحر مرتبط بالديمقراطية»، ولا ديمقراطية حقيقية من دون اقتصاد حر، تتكون فيه طبقة اجتماعية ترى أن مصالح تخدم بأفضل طريقة عندما تشيع الشفافية وحكم القانون ويتم تطبيقه على الجميع من دون استثناء والبعد عن المحسوبية... إلى آخر المنظومة المعروفة المصاحبة للاقتصاد الحر. وتتناقض الديمقراطية الحقيقية بآلياتها المعروفة مع اقتصاد «شبه اشتراكي»، تكون الدولة هي المانحة والمانعة فيه، أي أن النمط الاقتصادي يعتمد على الريع المتأتي من النفط، ولا يرتبط العائد الاقتصادي فيه بالعمل والاجتهاد والمثابرة، فكيف يستغرب أحد الحقيقة التي تناولتها دراسة رسمية في الكويت أن حوالي ثلاثين سلعة استهلاكية سعرها في «الجمعيات التعاونية» والتي هي أهلية وعامة، أغلى من مثيلاتها في السوق خارج الجمعيات!
تاريخ القرن العشرين يشهد على أن الصراع البشري تمحور حول «اقتصاد السوق، والليبرالية السياسية» من جهة، وبين «الشمولية السياسية والاقتصاد المركزي الخاضع للدولة»، من جهة أخرى. فليس جديداً إذا ربطت الديمقراطية أو المشاركة الشعبية الحقيقية بالاقتصاد الحر، بل إن بعض المفكرين في الغرب ذهب إلى القول إن انتصار الديمقراطية السياسية كما نعرفها اليوم، هو انتصار أيضاً لاقتصادات السوق. لذلك ليس غريباً على التقرير أن يلحظ «الشعور العام لضعف صدقية السياسيين»، لأن كثيراً منهم ليس مستقلاً ولا قادراً على أن يكون مستقلاً، لأن الدولة هي الأم والأب معاً.
إذا لا يمكن أن تهيمن آليات الدولة على الاقتصاد بشكل يكاد يكون شمولياً من التوظيف الى الدعم، ونطالب في الوقت نفسه بإزالة أو تخفيف الفساد، أو حتى نطالب برقابة حقيقية لتقليص مساحة الفساد.
لذلك سيظل الفقير البعيد عن النفوذ، يدفع ثمن الوزن الزائد، ليس أمام مكاتب الطيران فقط، بل وفي أماكن كثيرة كالخدمة الصحية الخاصة والمدارس الخاصة حتى نقرر أن نصلح الاقتصاد السياسي في بلدنا، وتقرير جهاز خدمة المواطن شاهد على ذلك
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 823 - الإثنين 06 ديسمبر 2004م الموافق 23 شوال 1425هـ