عند الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة من ضحى يوم الخميس الماضي كنت على موعدٍ مع فيلم مطاردة بين اثنين من «الفقراء» البائسين، محلي وخارجي، أو وطني وأجنبي. ابتدأ العرض بصوتِ بوقِ سيارةٍ كانت تقف خلفي، فالتفت إليها ظناً بأن السائق يقصدني، وإذا به يشير بيده إلى سائق موتورسيكل آسيوي الجنسية، يقف بين سيارتينا، طالباً منه التنحي عن مكانه بين السيارتين، ويبدو أن الآسيوي رفض في البداية، فارتفع صوت الفقير «الوطني»، وفي الأخير غيّر الآسيوي مكانه وهو لا يخفي نظراته الغاضبة إلى الوراء، ما أثار بدوره الفقير «المحلي»، فارتفع صوته أكثر. هنا مدّ الآسيوي يده إلى جيبه، فظننته سيخرج سكيناً أو «مسدّساَ» على طريقة الأفلام الهندية، وإذا به يخرج هاتفه النقال، ويستدير إلى الخلف ليسجل رقم سيارة غريمه. في هذه اللحظة أضاءت الاشارة الحمراء في موقع «تصوير» الفيلم «الأكشن»، عند تقاطع شارعي البديع والقفول، فتحرّك صاحب الموتورسيكل إلى الأمام باتجاه الغرب، فزاد هياج البحريني أكثر، وأخذ يلاحقه.
الموتورسيكل كان قديماً فأخذ يطرح دخاناً كثيفاً وراءه مثل عجلٍ عجوز! والسيارة المتهالكة من بنات جيل السبعينات لم تكن أفضل حالاً، و«بشق الأنفس» لحقت بالطريدة عند تقاطع الإشارة الضوئية التالية أمام مدخل السنابس الجديدة. ومرّة أخرى أخذ الفقيران يتبادلان النظرات الحانقة، ولكن كانت السيارات تفصل بينهما هذه المرة.
ومرة أخرى أضاءت الإشارة الخضراء، فانطلق فريقا رالي الفقراء، وهنا استطاع البحريني الشاب اللحاق بغريمه بحركة «بهلوانية» سريعة وأصبح الطرفان أمامي بمسافة. ومالت السيارة إلى اليمين فأخذت تضايق الدراجة العجوز حتى أنزلتها من الرصيف، فتدهورت وأخذت تجري متقلقلة على التراب، ووجد الآسيوي نفسه يرتطم فجأة بجدار مسجد صغير، تجدونه عند مدخل قرية «مني»، لا يزيد ارتفاعه عن متر ونصف. وألفيت السائق البائس يرتفع عن ظهر الموتورسيكل ليقع على بطنه على الجدار، ويجلس متلفتاً إلى الوراء، مدهوشاً، متألماً. وكانت آخر لقطة رأيتها لهذا البائس وهو يضع يده على فمه، يتحسس نزول الدم من أنفه لاعتقاده بتعرضه لإصابة أو نزيف، فيما ولى الفقير الآخر بسيارته وكأني به قد شعر بالنصر العظيم!
بعد ثلاثة أيام، وفي ضحى يوم السبت تحديداً، مررت على المسجد الصغير عند مدخل تلك القرية الصغيرة، فتوقّفت بسيارتي عامداً، لأرى ما تبقى من آثار الحادث. الجدار الاسمنتي لم يتأثر، ولكن مازالت هناك آثار عجلات على الأرض الترابية. ويمكن لأيٍّ منكم التأكد من الحادثة، وخصوصاً من سكّان شارع البديع، بالتوقف عند الحائط المذكور، إذ ستشاهدون آثار ارتطام العجلة مطبوعة على الجدار.
الحادث ليس فردياً، انما ينمّ عن ما يختزنه هذا المجتمع من كوامن العنف والتحدي والاحتكاك الذي ينذر بالشر.
في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، ذهبت إلى المنامة العاصمة، وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلاً، وبينما كنت أهمّ بإيقاف سيارتي لاحظت مجموعة من الشبان، ربما خسمة أو ستة، لا يزيد عمر أكبرهم عن 17 عاماً ولا يقل أصغرهم عن 13 عاماً. الشبان شكّلوا حلقة دائرية، وفي وسطها شخص «آسيوي» أيضاً. كان بعضهم يركله، وبعضهم يوجّه له ضربات في بطنه، بينما حمل أحدهم قطعاً من الورق المقوى أشبه بأنابيب الماء من مخلفات متاجر بيع القماش، وأخذ يتفنن في ضربِ طريدته. هذا والوافد يتلوى بينهم كالراقصات في الأفلام الهندية، ولا يجد المسكين غير الابتسام لهؤلاء، ربما للإفلات مما هو أشد فيما لو قاوم هذه الشلة «الفالتة».
أكرّر: الحادث ليس فردياً، انما ينمّ عن هذا الخزين المخيف، من كوامن العنف والاحتكاك والاصطكاك العنصري البغيض.
أنقل لكم هاتين الصورتين، بأعلى درجة من الدقة الممكنة، وثقوا بأنها لو حدثت في شارع المعارض، لقامت الدنيا وما قعدت، ولطالب «بعض» الصحافيين بإعادة قانون «أمن الدولة»، فلا يمكن أن نترك اقتصاد البلد ينهار! ولاستغلها بعضهم لسبّ الجمعيات المقاطعة التي تحشّد الرأي العام! ولاتخذها بعض النواب ذريعةً لتمرير «قانون أمن الدولة» في حلته الجديدة... وهل هناك من حجةٍ أفضل من الاعتداء على الوافدين من ضيوف البحرين؟
انها مجرد صورة جانبية لما يعتمل تحت السطح. لا تسمعوا لهؤلاء الثرثارين الفارغين، ادرسوا أسبابها بتأنٍ، ابحثوا عن طرق لتصريف هذا الخزين بصورةٍ آمنةٍ وإيجابية، لكي لا ترموا بأخطائكم المتراكمة ثلاثة عقود... على مشاجب الآخرين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 823 - الإثنين 06 ديسمبر 2004م الموافق 23 شوال 1425هـ