تعاقبت على أرض فلسطين هجرات من أقوام كثيرين، وهي لم تكن خالية من السكان يوماً من الأيام، إذ سكنها الكنعانيون الذين جاءوا إليها من جزيرة العرب ليسكنوا البقاع والسهول الساحلية، والفلسطينيون الذين جاءوا من مصر فسكنوا الساحل الجنوبي الغربي الممتد بين غزة ويافا.
وسكن اليهود بقية البلاد وأنشأوا مملكتين: مملكة «إسرائيل» فى الشمال، ومملكة يهودا فى الجنوب، واجتاح الآشوريون اقليم مملكة «اسرائيل» فى الشمال وقضوا عليها سنة 721 ق.م. ثم تعاقب على فلسطين الآشوريون والبابليون والاكديون، الذين قضوا على مملكة يهودا فى الجنوب سنة 586 ق.م.، والفرس والاغريق والرومان الذين شتـتوا اليهود وقضوا على كل نفوذ لهم سنة 70 ميلادية. وهناك حقيقة نشير إليها، وهي أن اليهود أتباع موسى (ع) الذين جاءوا معه من مصر الى فلسطين وأسسوا المملكتين المشار إليهما والذين سمتهم التوراة (المحرفة) بني إسرائيل، ليست لهم علاقة أو صلة بعصر إبراهيم الخليل (ع)، لا من حيث الثـقافة ولا اللغة ولا العرف ولا الدين. فقد ظهرت جماعة موسى (ع) من اليهود بعد سبعمئة سنة من عصر إبراهيم الخليل (ع)، ونبّه القرآن الكريم الى ذلك بقوله تعالى: «يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون. ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين». (آل عمران، 65 - 67).
إن جماعة موسى مجموعة من اليهود (المجذوبين) عاشوا فى مصر ورغب المصريون فى إخراجهم من مصر اتـقاء وبائهم، إذ خرج موسى للتبشير بهم من مصر الى فلسطين وليست لهم علاقة بالاسرائيلين الذين ذكرهم القرآن. ويشار إلى أن الفلسطينيين والكنعانيين هم سكان فلسطين الأصليون الذين وفدوا إليها قبل الفتح الاسلامي، لأن العرب فى فلسطين أسبق من الاسلام، وهم من القبائل التى سكنت المنطقة القديمة.
وبين القرنين الرابع والسابع خضعت فلسطين للنفوذ المسيحي إذ بنى الامبراطور قسطنطين الأول كنيسة القيامة فى القدس وكنيسة الميلاد فى بيت لحم وسارت فيها تعاليم الدين المسيحي وأصبحت قبلة النساك والرهبان ثم وقع الفتح الاسلامي سنة 637 بعد الميلاد واعتـنق الكثيرون من سكان فلسطين الدين الاسلامي وأصبح المسيحيون أقـلية بعد الفتح الاسلامي، وفى سنة 1100م ظهرت نهضة مسيحية على أيدي الصليبيين إذ أنشئت مملكة القدس اللاتينية حتى سنة 1187 حيث انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين واستعاد فلسطين منهم وعاش المسلمون والمسيحيون في فلسطين جنباً الى جنب، وفي سنة 1518 ضمت الدولة العثمانية فلسطين الى ممتلكاتها وظلت خاضعة لنفوذهما حتى قيام الحرب العالمية الأولى وبانتهاء الحرب وخسارة الدولة العثمانية فى الحرب انتهت السيطرة العثمانية على فلسطين (1917 - 1918) بعدها خضعت فلسطين للانتداب البريطاني بموجب معاهدة سايكس - بيكو السرية بين بريطانيا وفرنسا العام 1919 قبل انتهاء الحرب، وكان العرب تواقين الى الاستـقلال وتكوين دولة عربية والتخلص من السيطرة العثمانية. وكانت هناك حركات سرية تسعى إلى بلوغ هذا الهدف. وكانت هناك فرصة ثمينة لتكسب بريطانيا ودّ العرب عن طريق اغرائهم بتحقيق الاستـقلال فى حال وقوفهم الى جانب الحلفاء ضد الدولة العثمانية. وقدمت الى العرب من الوعود ما طمأن نفوسهم فى الوصول الى الاستـقلال، وتجلت فى المراسلات التى جرت بين الملك حسين ملك الحجاز وهنري مكماهون المندوب البريطاني فى مصر بين (1915 - 1916).
النزاع بين العرب
واليهود بين 1915 - 1948
كانت فلسطين فى بداية هذه المرحلة تكوّن جزءاً من ممتلكات الدولة العثمانية، إذ خضعت للنفوذ العثماني منذ سنة 1518 حتى قيام الحرب العالمية الأولى وبعدها خضعت للانتداب البريطاني حتى 14 مايو/ أيار 1948 حيث انتهى الانتداب.
ويقضي هذا البحث بتقسيم الموضوع الى قسمين: اليهودية والصهيونية؛ وتصريح بلفور وقيمته القانونية.
اليهودية والصهيونية
يبدو الفارق بينهما واضحاً من التسمية كما ان هناك اختلافاً جوهرياً بينهما، فاليهودية ترمز الى جماعة معينة يسمون باليهود كما ترمز الى الديانة اليهودية. واليهود تربطهم رابطة الدين اليهودي وهاجر المجذومون الذين كانوا ينتمون الى أجناس مختلفة الى فلسطين بسبب الاضطهاد الذي لاقوه في مصر فى عهد رمسيس الثاني وكان ذلك بقيادة النبي موسى (ع) حوالي سنة 138 ق.م وبقوا فى صحراء سيناء أربعين عاما لعدم استطاعتهم دخولها خشية ساكنيها، وعرفت هذه السنين (بسنين التيه) ثم تمكن يوشع بن نون الذي تولى القيادة بعد وفاة موسى من دخول فلسطين حوالي سنة 1250 ق.ب.
ثم تولى حكم الاسرائيليين (الموسويين) جماعة عرفوا بالقضاء من سنة 1130 - 1020 ق.م، وانتهى حكمهم بقيام الملكية على يد شاؤون وبعد وفاته تولى قيادتهم النبي داوود من سنة 1000 - 960 ق م. وبعد وفاته تولى ابنه النبي سليمان الملك من سنة 960 - 935 ق.م. ثم تولى ابنه أرحبعام، وفي عهده انقسمت المملكة الى مملكتين: «إسرائيل» في الشمال ويهودا فى الجنوب. ثم قضى على الأولى الآشوريون، وقضى على الثانية البابليون. ويشار إلى أن المملكتين لم تبسطا نفوذهما فى أي وقت من الأوقات على كل فلسطين، كما أنهم لم يتركوا من الآثار الحضارية التى تدل على تاريخ متميز خاص بهم.
أما الصهيونية فهي حركة سياسية تهدف الى العودة الى الأرض المقدسة وهي مشتـقة من (صهيون) الذي يقصد به أرض الميعاد، تدعو الى تكوين دولة مستـقلة فى أرض الميعاد، ويرجع معظم الكتاب تاريخ نشوء الصهيونية الى أواخر القرن التاسع عشر ابتداءً من التاريخ الذي دعا فيه تيودور هرتزل إلى عقد المؤتمر الصهيوني العالمي في مدينة بال في سويسرا سنة 1897 .
وأنشئت المنظمة الصهيونية العالمية كما يذهب رأي الى أن موسى مونتغير هو الصهيوني الأول الذي حاول شراء مساحة من الأرض فى فلسطين من الباب العالي بقصد تنظيم هجرة اليهود من أنحاء العالم الى فلسطين. ويذهب رأي آخر الى أن الحركة الصهيونية بدأت مشاعر وعقيدة دينية يتداولها اليهود بالسر والخفاء، تترقب ظهور المسيح المنتظر لتحقيقها الذي عين التلمود موعد ظهوره بالوقت الذي تطرح فيه الأرض فطيراً وملابس من الصوف وقمحاً كبيراً وعندئذ تعاد السلطة الى بني اسرئيل...إلخ.
وانتـقلت هذه الدعوة الى العلانية أول مرة فى الكتاب الذي نشره هنري فنس فى بريطانيا سنة 1616 وعنوانه «نداء اليهود» على أن رأياً آخر يذهب الى أن حركة شبتاي تسيفي تعد من أولى الحركات الصهيونية عندما قامت هذه الحركة سنة 1616 بمحاولة إعادة اليهود الى فلسطين، لم يكتب لها النجاح بسبب يقظة الأتراك، مع ذلك فهذه الحركة ساهمت في إنهاء الخلافة العباسية وتصفية الامبراطورية العثمانية.
وأول من استعمل تعبير الصهيونية الكاتب الألماني اليهودي ناتان بيربناوم سنة 1893 باعتبارها رمزاً لماضي اليهود ومستقبلهم الذي يشدهم للعودة الى الارض المقدسة ويبعث الدولة اليهودية من جديد.
هل اليهودية والصهيـونية شيء واحد؟
لم يفرق كتاب القانون الدولي العرب فى كتاباتهم القانونية عن القضية الفلسطينية بين الكلمتين ويبدو انهم أعتبروها شيئاً واحداً بالنظر إلى الاهداف التي ترمي إليها اليهودية عن طريق التوراة والتلمود وهي الاهداف نفسها التي تسعى الصهيونية العالمية الى تحقيقها وعلى الأسس نفسها.
ويذهب رأي الى أن هناك فارقاً بين اليهودية والصهيونية وأنه ليس بالضرورة ان يكون كل يهودي صهيونياً. وهذا الرأي على أسباب سياسية أو إعلامية أو استراتيجية، فالسير بهذا الاتجاه سيدفع اليهود الذين ليست لهم علاقة بالصهيونية الى المشاركة فيها.
والحقيقة اننا وان كنا نجد نفراً قليلاً من اليهود لا يؤمن بالصهيونية استـثـناء إلا ان القاعدة العامة فى العصر الحالي ان اليهودية والصهيونية صنوان لا يفترقان، بل انهما فى بعض الاحيان شيء واحد كما هو واضح من التوراة والتلمود، فاليهودية فى التوراة دين وسياسة وحرب وليس فى التوراة سلام ولا تميز التوراة بين الدين والسياسة والحرب.
وترمي اليهودية الى سيادة العالم والسيطرة على أجزاء معينة منه: «كل أرض وطأتها قدماك فهي لك».
أما الصهيونية فهي مرحلة أضيق من اليهودية لأنها تعبر عن السياسة التنفيذية الخاصة بعودة اليهود الى صهيون في اورشليم التي حددت التوراة دائرتها من (الفرات إلى النيل) فاليهود والصهاينة يعتـنقون الدين اليهودي ويتمسكون بالتوراة والتلمود وينفذون ما ورد فيها باعتبار اليهود شعب الله المختار ويجب ان يسيطروا على العالم.
موقف القانون الدولي
من إنشاء وطن لليهود في فلسطين
لقد بدأت دعوة اليهود للعودة الى فلسطين سرية إذ كانوا يذكرونها ويصلّون من أجل العودة إليها وكان الطابع الغالب على تلك الدعوة هو الطابع الديني، وكانت أول دعوة علنية لإنشاء وطن قومي لليهود ينطلق منها العمل على تحقيق الدولة العالمية التي ينشدونها وهي التي نادى بها (هنري فنس) سنة 1616 فى كتابه «نداء اليهود» وتوالت من بعدها الجهود العلمية الفردية والجماعية التي لم يكن لها تأثير كبير.
وبانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1884 فى مدينة kotcvice الذي أسفر عن توحيد التنظيمات والجمعيات المحبة لصهيون وأصبحت أوروبا مركزاً لتلك الجهود ثم تزعم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل الذي أوضح ان حل مشكلة اليهود يكمن فى قيام الدولة اليهودية من أولئك الذين لا يطيقون البقاء فى البلاد التي تضطهدهم على رقعة متسعة من الأرض تكفي أمة محترمة .
ودعا (هرتزل) الى عقد مؤتمر صهيوني فى مدينة بال بسويسرا وتم ذلك فى 29 أغسطس/آب 1897. ولكن هرتزل ذهب أبعد من ذلك إذ اتصل (بسلطان الدولة العثمانية بالسلطان عبدالحميد) للحصول منه على ترخيص بإنشاء وطن قومي لليهود فى فلسطين ولكن السلطان العثماني رفض ذلك، عرضت الحكومة البريطانية خدماتها بأن تعوض هرتزل عن فشله فعرضت عليه منطقة (أوغندا) لتكون وطناً لليهود مع منحه امتيازاً باستعمارها فوافق على العرض إلا ان المتعصبين من الصهاينة رفضوا هذا العرض لأنهم لا يرضون بغير فلسطين بديلاً ثم صار هدف الصهيونية إنشاء دولة يهودية في فلسطين.
المزاعم التي تستـند
إليها الصهيـونية
وتستند الصهيونية في إقامة وطن قومي في فلسطين على عدة اعتبارات منها:
1 - الاعـتبار الديني: ويستمد هذا الاعتبار أصوله من التلمود الذي يعتبر قاعدة أساسية للصهيونية ولبناء دولتهم العالمية وكذلك من التوراة المزيفته التي تعتبر اليهودية دينا وسياسة وحرباً، وتـقوم الفلسفه الصهيونية على أساس ان اليهود طبقة متميزة من البشر وأنهم شعب الله المختار الذي يجب ان يسود العالم ويسيطر عليه وان نقطة انطلاقهم للسيطرة على العالم هي فلسطين أرض الميعاد، والتي يجب ان تـقوم دولتهم فيها.
وهذه الأفكار دفعتهم الى التمييز العنصري فقد جاء في التلمود ان غير اليهود من البشر من جنس وسط بين اليهود والحيوانات كما جاء فى التلمود ان المجتمع البشري يجب ان يـقوم على أساس وجود طبقتين الطبقة العليا وتتكون من السادة اليهود والطبقة السفلى وتتكون من غير اليهود من الجنس البشري، فقد أوجد التلمود حدودًا فاصلة بين الطبقتين .
2 - الاعتبار القومي: ويقوم هذا الاعتبار على أساس انتماء اليهود الى أمة واحدة والذي يستـتبع بالضرورة ان تكون لغة خاصة يتكلمون بها ولهم ماضٍ وثـقافة مشتركة ولذلك فإنهم يكونون قومية خاصة أو جنسا.
3 - الاعتبار التاريخي: ويقوم هذا الاعتبار على أساس ان اليهود سبق وان أقاموا مملكة النبيين داود وسليمان (ع) ومملكتي «إسرائيل» ويهودا فى فلسطين، وهم الآن مشردون في بقاع المعمورة، ويلاقون مزيداً من الاضطهاد فى البلاد التي يعيشون فيها، وان حقهم من الناحية الانسانية العودة الى وطنهم (فلسطين) أرض الميعاد وتكوين دولة مستقلة فيها تحتوي عناصر اليهود المشردة في أنحاء المعمورة
العدد 820 - الجمعة 03 ديسمبر 2004م الموافق 20 شوال 1425هـ