كعنصر اضافي للاقناع، يورد الكثيرون عبارة «الدول المتقدمة» في آرائهم وطروحاتهم كلما ارادوا اقناع قرائهم او مستمعيهم بصحة نقدهم لأمر يخصنا هنا. المقارنات باتت احدى العناصر الاساسية في جدلنا بالنسبة إلى كل شيء. في السياسة وممارساتها المستجدة لدينا (اعني الديمقراطية) او في النشاط اليومي، تبدو المقارنة مع «الدول المتقدمة» حتمية احيانا.
هذه الاحالة التي تنطلق بالتأكيد من اداة قياس ثابتة (الغرب المتقدم والشرق النامي) لها معنى آخر: الاشارة الى الآخرين المتقدمين تعني أننا متخلفون. لا ينكر الجميع بعضا من صور التخلف في ميادين عدة والنقد يكتسب مرارة احيانا كلما اوغلنا في المقارنات مع الآخرين طالما أن القناعة بأن نحيا متصلين بالعالم لم تعد مسألة مطروحة للنقاش.
لكن السنوات الاخيرة حفلت ايضا بمقاييس ونماذج اخرى للتقدم: النمور الآسيوية رغم الهزة الاقتصادية والانهيار في 1998، هنا تبرز ماليزيا على مثالاً شاخصاً، مزيجاً من النجاح الاقتصادي والليبرالية الاسلامية بعناصر اضافية مشجعة ومغرية: حفاظ على الهوية، اعتماد على الذات... إلخ.
ماذا تعرفون عن الهنود؟ الهنود الذين نعايشهم منذ قرون طويلة حتى اليوم ويكاد تأثيرهم أن يكون شبه شامل علينا. ربما علمونا اكل الرز وطبعوا مطبخنا واذواقنا ببهاراتهم، وربما امدونا بكل ما نفكر به من الموظفين والعمال، من الادارات العليا والفنيين ومبرمجي الكمبيوتر حتى اكثر المهن تواضعا. هل تكفي الاشارة للقنبلة النووية وصواريخ «اغني» والصراعات العرقية والتنوع العرقي والديني الهائل والمقارنة الفاحشة بين مظاهر الثراء والنجاح مقابل صور البؤس لكي نعرف الهند جيدا؟
لا يكفي هذه القارة بضعة سطور مقتضبة، وفي مقابل الهند يقف مثال آخر مشابه هو باكستان. ليست مفارقة القوة النووية والفقر هي ما يجمع البلدين، بل مقارنات طويلة تستدعي التوقف. يمكن للكراهية أن تصنع الكثير: الانفاق الهائل على التسلح وصولا الى اجتراح معجزة الدخول في نادي الدول النووية.
يستوقفني في تجربة الهند تفصيل بسيط: الاعتماد على الذات. إنها رحلة طويلة «مضنية» مثلما يقال، لكنها لم تكن محض شعار سياسي مثلما كان الحال في دول اخرى لأنها حملت في طياتها ايضا «التصميم» الذي يصل الى حد العناد، لكن هل العناد وحده هو الذي يقف وراء نمو الناتج الاجمالي المحلي للهند في السنة المالية 2003 -2004 بنسبة 8,2 في المئة؟
بحسب رئيس تحرير صحيفة «العصر الآسيوي» بنيودلهي «م. ج. اكبر»في تعليقه على كتاب «أن تكون هندياً، لماذا سيكون القرن 21 قرن الهند»، فإن «خلف الاقتصاد الهندي الحديث عملية مرهقة بدأت في خمسينات القرن الماضي تحت قيادة نهرو الرؤيوية. اسس معاهد التكنلوجيا الهندية والمعاهد الهندية للادارة التي خلقت اجيالا من المنظمين الاقتصاديين اصبحوا المسئولين عن احصاءات اليوم المذهلة». (مجلة فورن بوليسي - سبتمبر/ اكتوبر 2004).
من هذا التفصيل يمكن لاستقرائنا للتجربة الهندية أن يصل الى الكثير، والهند تبدو في نواح عدة وكأنها تقتفي صورة اخرى للولايات المتحدة: بوليوود مقابل هوليوود، وادي السليكون الهندي في مقابل وادي السليكون في اميركا. وخلف هذا الوادي تفصيل آخر: غالبية مبرمجي الكمبيوتر في الشركات الكبرى بما فيها مايكروسوفت من الهنود.
ماذا تعرفون عن الهنود الذين تعايشونهم منذ قرون؟ على رغم كل ما قد يقال، علينا أن نتذكر أن الهند (هذه الخزينة البشرية المنطوية على كل اشكال التناقضات)، تشهد استقرارا سياسيا منذ استقلالها وحكامها يصلون الى الحكم عبر صناديق الاقتراع على رغم فداحة التعصب الاثني والديني فيها، لا الانقلابات العسكرية مثلما هو الحال في جارتها باكستان.
أمثلة المقارنة مع الدول المتقدمة ستظل باقية وسنظل نستخدمها في الحجاج والنقاش، لكن بودي أن نتواضع قليلا ونلتفت الى الشرق، لكي نبدأ في محاولة فهم وصفات نجاح اخرى. الهند وماليزيا مثلا، لأن المقارنات مع الغرب الصناعي اصبحت لا تعني سوى لازمة متكررة لخطاب يحلق في السماء. كلما ازددنا إلحاحا على المقارنة مع الدول المتقدمة، كلما ادركنا أن محنتنا تتفاقم: مازلنا لا نعرف كيف نسير
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 820 - الجمعة 03 ديسمبر 2004م الموافق 20 شوال 1425هـ