ما هو الرابط الذي يجمع بين انتخابات لبنان وأوكرانيا وفلسطين والعراق؟ إنها استراتيجية تدويل السياسات المحلية التي تقوم على فكرة التدخلية، أي تدخل الخارج في تعديل الموازين والتأثير عليها لإنتاج سلطة قادرة على التعامل مع الخارج. فالتدويل هو ذاك الرابط الذي يجمع بين انتخابات جرت في لبنان وأوكرانيا وانتخابات تستعد القوى إلى عقدها في فلسطين والعراق. ففي كل مثال نجد الخارج يتدخل في سياسة داخلية بهدف التأثير على مسارها ودفعها باتجاه يتناسب مع مصالح الدول الكبرى بعيداً عن توازنات الداخل وخريطة القوى المحلية وإراداتها.
هذا النوع من التعامل بين «الخارج» و«الداخل» ليس جديداً، فهو تأسس ميدانياً بعد دخول العالم عصر التدويل وانتقال العلاقات بين الدول من درجة التساوي والاحترام المتبادل إلى درجة التفاوت في النمو (الاقتصادي، العسكري والثقافي) بين كتلة من الدول المتقدمة وكتلة من الدول المتخلفة أو الأقل تقدماً. وأعطى هذا التفاوت في النمو بين الكتلتين ذريعة للقوى المتقدمة للتدخل في شئون الدول المتخلفة أو الضعيفة عسكرياً أو تلك التي تحاول النمو بالتعاون مع الدول الكبرى.
هذه السياسة الدولية ليست جديدة، فهي بدأت بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر وتطورت بعد ظهور حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرن السادس عشر وتواصلت في القرون الثلاثة التالية حين انتقلت أوروبا من الإصلاح الديني إلى الثورة الصناعية التي أحدثت قفزة في التطور السكاني (نمو كتلة بشرية) شجعت أوروبا على تصدير البشر إلى عشرات المناطق وتوطينها لحماية حركتها التجارية والمالية.
آنذاك أربكت حركة التقدم كل فلاسفة أوروبا وانقسمت مدارسهم إلى اتجاهات متباينة بين مؤيد لحركة «أوربة» العالم ونشر الحداثة في البلدان المتخلفة وبين حركة ترفض فكرة «الوعي من الخارج» لأنها ستؤدي إلى تحطيم البنى القديمة وأنماط الإنتاج المختلفة ولن تسهم في تطوير علاقات الداخل بقدر ما ستؤدي إلى إلحاق تلك الدول (الفقيرة والضعيفة) بالسوق الدولية وستزيد من فقرها وضعفها.
هيغل مثلاً أيّد التوسع الأوروبي انطلاقاً من نظرية تفوّق الشرق على الغرب. كذلك فعل «تلميذه اليساري» كارل ماركس في كتاباته الأولى، إذ دافع عن استعمار الجزائر والهند معتبراً أن دخول أوروبا إلى تلك البلدان سيسهم في دفعها تاريخياً خطوات متقدمة إلى الأمام.
هيغل لم يتراجع عن نظريته لأنه توفي قبل أن يشهد الكوارث التي سببها التوسع الأوروبي في بلدان الشرق. ماركس أعاد النظر في كتاباته الأولى فانتقل من مؤيد للتوسع الاستعماري (الأوروبي) إلى منتقد له يتحدث عن إيجابيات (إدخال أنماط حديثة في مجتمعات متخلفة) وسلبيات (تدمير اقتصادات راكدة ولكنها كانت منسجمة مع طبيعة التطور). وانتهى ماركس في كتاباته الأخيرة إلى معارضة التوسع الاستعماري (الأوروبي) حين اكتشف مقدار الدمار الذي أحدثه مقابل إلحاق أسواق العالم (الهامشية) بالسوق المركزية (أوروبا).
فكرة «إدخال الوعي من الخارج» ليست جديدة وهي تشبه إلى حد كبير تلك الأفكار المعاصرة التي أعادت واشنطن طرحها على دول العالم بصيغة معتدلة تعتمد مبدأ «الإصلاح من الخارج» من خلال زيادة جرعة التدخل الخارجي وتقليل أهمية العناصر الداخلية في إنتاج التطور المطلوب لتنسجم اقتصادات العالم مع السوق الأميركية (المركزية).
لاشك في أن حركة المبادلات بين دول العالم أخذت تنمو في العقود الأخيرة على حساب حركة السوق الداخلية أو بين أسواق دول الجوار الإقليمية. فالتبادل التجاري مثلاً بين الصين وأميركا أو بين اليابان وأميركا أقوى بكثير من التبادل التجاري بين أميركا والمكسيك وأميركا وكندا. كذلك هي أقوى بين الصين وأميركا منها بين الصين واليابان أو بين الصين وتايوان. فحركة الأسواق الدولية عطلت أو تجاوزت الكثير من تلك العلاقات التي كانت سائدة بين دول الجوار الجغرافي (الإقليمي) قبل قرون أو عقود. وهذه الأمثلة العينية يمكن سحب نماذجها على الكثير من علاقات الدول الإفريقية أو العربية أو الآسيوية فهي تراجعت عما كانت عليه سابقاً وتقدمت بينها وبين دول الغرب (الأميركية - الأوروبية). ومثل هذه التحولات تعني سياسياً تراجع المفاهيم القومية والروابط الدينية والمشاعر الأخوية لمصلحة نمو علاقات سياسية تنسجم مع نظرية السوق وتوسع المركز الأميركي على حساب علاقات الداخل وموازينه المحلية أو الإقليمية.
وعلى أساس هذا التحول في المبادلات يمكن أن نفهم ذاك الرابط الذي يجمع بين الانتخابات في لبنان وأوكرانيا وفلسطين والعراق. فالرابط يعكس مستوى ذاك النمو لاستراتيجية «أمركة» السياسات المحلية وعودة تغلب نظرية «الوعي من الخارج» على حسابات «الاستقلال» و«الحرية» و«السيادة»... وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
إنه عالم جديد. والجديد يطرح دائماً أسئلة وتحديات وانقسامات وربما الكثير من العنف والفوضى والحروب الأهلية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 820 - الجمعة 03 ديسمبر 2004م الموافق 20 شوال 1425هـ