حذر المرجع السيّدمحمد حسين فضل الله، من الانخراط في جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية مؤكداً أن ذلك يمثل جريمة كبرى يرتكبها كل الذين يفشون أسرار الأمة لحساب الخطط الاستكبارية المضادة. وأكد أن الرئيس الأميركي جورج بوش يريد إضفاء الطابع الأمني والعسكري على مهمته الجديدة في الولاية الثانية له لاستباحة مواقع جديدة في العالم.
وتساءل سماحته: «ألم يكن من الأجدى لأميركا الحوار مع شعوب العالم واسترضاؤها بدلاً من التجسس أكثر عليها».
جاء ذلك رداً على سؤال وجه إليه في ندوته الأسبوعية عن الموقف الإسلامي من التجسس وطلب الرئيس الأميركي من وكالة الاستخبارات المركزية زيادة عدد المنخرطين فيها وخصوصاً الذين يتقنون اللغة العربية. وأجاب فضل الله بقوله: «التجسّس هو التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشرّ، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): «يا معشر من أسلَم بلسانه ولم يسلم بقلبه، لا تتّبعوا عثرات المسلمين، فإن مَن تتبّع عثرات المسلمين تتبّع الله عثرته، ومن تتبّع الله عثرته يفضحه».
وتابع: «لقد خطّط الإسلام في العلاقات الإنسانية العامة في مجتمعه لاحترام الناس في حياتهم الداخلية الخاصة، فلم يرخّص بالبحث عن أسرار الآخرين الخفية مما لا يريدون اطلاع الناس عليه من قضاياهم الذاتية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية وغير ذلك، لأن الله أعطى للحياة الخاصة حرمةً شرعية لم يُجز لأحد اقتحامها، وجعل للإنسان الحق في منع غيره من الاعتداء أو التلصّص بأية وسيلة من وسائل المعرفة الظاهرة والخفية».
وأضاف: «وقد تتعاظم الخطيئة في التجسّس لحساب الجهات التي تكيد للأمة في قضايا حريتها واستقلالها واقتصادها وأمنها وخطوطها الاجتماعية، ما يمكّن الأعداء للسيطرة على الأوضاع المصيرية والأمور الحيوية لإسقاط البلاد والعباد، ويؤدي إلى الفتن العرقية والمذهبية والطائفية التي يخطّط لها هؤلاء من المستكبرين في مخابراتهم الدولية، والظالمين في المخابرات المحلية والإقليمية، ما يجعل الجريمة أكبر وأوسع في نتائجها التدميرية في الأمن والسياسة والاقتصاد، وفي المآسي الدامية التي تصيب المدنيين في كل أوضاعهم العامة. وقد يكون من الضروري التنبيه إلى أن هذا المبدأ الاجتماعي الممتد في الخطوط السياسية لا يشمل الحالات التي تمسّ فيها مصلحة الأمة والتي قد تستدعي الاطّلاع على بعض الأوضاع الخفية للأشخاص والمواقع والحوادث المتعلّقة بالآخرين مما يخاف ضرره أو يراد نفعه أو يركّز قاعدته، فيجوز للقائمين على الشئون العامة اللجوء إلى هذا الأسلوب في نطاق الضرورة الأمنية والسياسية والاقتصادية انطلاقاً من قاعدة التزاحم بين المهم والأهم لتغليب المصلحة التي تقف في مستوى الأهمية القصوى على المفسدة المترتبة على التجسّس، فإن حرمة الأمة تتقدم على حرمة الشخص أو الأشخاص في ذلك».
وأضاف: «وقد جاء في السيرة النبوية أنه كان يرسل الأشخاص الذين يأتونه بخبر الأعداء ليتفادى الوقوع في خطط الذين يخططون للإيقاع بالمسلمين أو لاكتشاف الجواسيس الذين يتولون إخبار الأعداء بما يتحرك به المسلمون، أو لتخريب بعض أوضاعهم بفعل الوسائل التي يملكها الجهاز الإسلامي للمخابرات... وعلى هذا الأساس، فإننا نحذّر من الانخراط في جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية، لأن ذلك يمثل جريمة كبرى يرتكبها كل الذين يفشون أسرار الأمة لحساب الخطط الاستكبارية المضادة، وخصوصاً أن ما تخطّط له الإدارة الأميركية هو الضغط أكثر على الخاصرة الرخوة للأمة لاستباحة مناطق جديدة فيها عبر الوسائل والأساليب السياسية أو الاقتصادية، أو من خلال التحركات العسكرية والأمنية المباشرة».
وأردف قائلاً: «إن تجاربنا كأمة عربية وإسلامية مع الاستخبارات المركزية الأميركية هي تجارب قاسية وصعبة، سواء في أولئك الذين وظفتهم لحسابها قبل أن يتولوا مواقع قيادية في هذه الدولة أو تلك ليكونوا يدها التي تضرب وعينها التي تراقب أو حتى في استخدامها لمخابرات الدول العربية لحسابها، أو في الخدمات الضخمة التي قدمتها لـ «إسرائيل» بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ جعلت من حركة المشروع الأميركي في المنطقة حركة مساندة أو داعمة للمشروع الإسرائيلي في التوسع والاحتلال والسيطرة على حساب الشعوب العربية والإسلامية وعلى حساب قضاياها وحقوقها المشروعة. إن ما عملت له الاستخبارات المركزية ولا تزال هو التلاعب بالوقائع والحوادث وتضخيم أحجام بعض الشخصيات وبعض الدول وتصغير أحجام أخرى لتمرير مشروعاتها عبر إسقاط أنظمة وإحياء أخرى. ولذلك تحولت سفارات أميركا في العالم، كغيرها من السفارات، إلى مواقع للتجسس على الشعوب، بدلاً من أن تكون مواقع للتواصل السياسي والحضاري والثقافي، وحيث يراد لسفارة أميركا في العراق أن تكون الموقع الإستراتيجي الأوسع والأكبر لمراقبة المنطقة وتدبير الخطط الجديدة ضد دولها، وخصوصاً إيران وسورية».
وأضاف فضل الله: «وإننا نحذر من أن الرئيس الأميركي بوش يريد إضفاء الطابع الأمني والعسكري على مهمته الجديدة في ولايته الأخرى. انطلاقاً من الأهداف التي رسمتها إدارته في تضخيم حجم الإستهداف لأميركا للحصول على تأييد أميركي أوسع في استباحة أو إخضاع مواقع جديدة في العالم. إننا بإزاء هذه الزيادة المعلنة على أرقام عملاء الاستخبارات المركزية وخصوصاً في المنطقة العربية والإسلامية نتساءل: ألم يكن من الأجدى العمل على استرضاء الشعوب والسعي للحصول على صداقتها عبر الحوار المباشر مع الطاقات الحية والمتحرّكة فيها، وعبر إعطائها حقوقها بدلاً من سلوك طرق التجسس عليها، وبدلاً من سلوك الطرق الوعرة حتى في التشريعات الأميركية الداخلية التي تقدم أميركا للعالم كدولة من دول العالم الثالث التي تتحول نحو مزيد من الضغط على الناس واعتقالهم وزجّهم في السجون على أساس الشبهة، ولتتحول نحو مزيد من الملاحقة للعرب والمسلمين ولاستهداف الإسلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة».
وختم إجابته بالقول: «إننا مع ذلك كله نؤكد الجاليات العربية والإسلامية في البلاد الغربية وبلاد الاغتراب احترام أمن الدول التي تعيش فيها وعدم الإساءة إلى شعوب هذه الدول وأنظمتها العامة، والعمل على مصادقة هذه الشعوب بكل الوسائل والإمكانات المتاحة لنقدم إلى العالم صورة عن أمة الحوار والتواصل مع شعوبه في مواجهة الآخرين الذين يقدمون صورة التجسس بكل خلفياتها وأهدافها، ولكن من دون أن يعني ذلك أننا نتخلى عن قضايانا والدفاع عنها بالوسائل الطبيعية والمشروعة»
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 819 - الخميس 02 ديسمبر 2004م الموافق 19 شوال 1425هـ